ثانيا: النفس والذكر بين النسيان وعرضية الاسباب:
ولهذا كان نسيان ذكر الله تعالى مؤديا إلى نسيان النفس أي نسيان طبيعة تكوينها، وبالتالي الغفلة عن محددات سلوكاتها من خلال تحديد الخواطر ومصدرها والبواعث وأسبابها. وهذه الغفلة تؤدي حتما إلى الفسوق كما عبرت عنه الآية الأولى والذي يترتب عنه اختلال سلوكي وفقدان التمييز بين الحال الروحي والحال السلوكي والحال النفسي التفاعلي على سبيل التناقض الذاتي الذي من صوره الاشمئزاز والنفور والقلق المناقض للاطمئنان والرضى.
ونسيان ذكر الله تعالى رغم انطباع الروح عليه وحضوره كغذاء فطري له يمكن إحالته إلى الأسباب التالية وهي :
أ) السبب الغريزي الشهوي :
وهذه الغريزة بصورها المادية والاجتماعية قد وردت في القرآن الكريم من قول الله تعالى : « زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب». ولهذا الحب الغريزي الذي تميل النفس إليه نحو هذه المسائل كانت سببا في نسيان ذكر الله تعالى بسبب الانصراف والانشغال في تحقيق متطلبات الغرائز التبعية المذكورة في الآية وذلك على حساب الغريزة الأصلية وهي حب الله تعالى بالاكثار من ذكره. ولهذا جاء الخطاب الإلهي تحذيريا من الوقوع في هذا الانتقال من المستوى الأعلى إلى المستوى الدوني في التوظيف الغريزي. ويتجلى ذلك في قول الله تعالى : « يأيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكرالله فمن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين» « فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا».
كما جاء الخطاب فيه مدح للذين حافظوا على التوازن الغريزي مع إعطاء الأسبقية للغريزة الأصلية وذلك في قوله تعالى : « في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار».
ب) السبب الذاتي الأهوائي:
وهذا السبب من أصعب العوامل المؤدية إلى نسيان ذكر الله تعالى : لأنه عبارة عن أنانية الذات ومحاولة الاستكبار على الحقيقة رغم وضوحها بل رغم مشاهدتها كما يبين لنا الله سبحانه وتعالى هذه الحالة الإنسانية المرضية في قوله «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون، ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون». والملاحظ في هذه الآيات وخاصة الآية الأولى أن الانسلاخ كان سببه الانسان ذاته ولهذا كان لا يمس الحقيقة وإنما هو نتيجة الهوى والتحكيم الذاتي الضيق والذي ليس سوى ظنون لا أساس لها من الصحة. ومن هنا كان الخطاب بصيغة «انسلخ منها» ولم يأت بصيغة انسلخت منه لأن الحقائق لا تتغير ولا تتبدل والفطر راسخة مهما عشيت أو عمي ظهورها. ولهذا فالضائع المنسلخ هو الانسان الأناني والمتبع لهواه، وهذا الانسلاخ يمكن تشبيهه بانسلاخ جلد الأفعى عن ذاتها، لأن الملفوظ والمطروح للتلاشي هو الميت من الجلد. أما الأفعى كهيكل متماسك وكائن حي فإنها تستمر في وجودها إلى أن يكتب الله لها موتها كما تموت سائر الكائنات الحية.
ومن هنا يمكن ربط الإنسان بنسيان ذكر الله تعالى في اتباعه للهوى إذ الهوى وهم وسراب كجلد الأفعى المنسلخ منها، والثابت المترسخ هو فطرة التوحيد التي هي كلها ذكر وشهادة لله بالربوبية والألوهية. كما يقول الله تعالى : « ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون».
ولهذه النتائج السلبية التي يؤدي إليها الهوى جاء الخطاب الإلهي بالأمر الجازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بملازمة مجالس اهل الذكر التي أسسها هو نفسه، وذلك لسد الأبواب أمام الأهواء المؤدية إلى الغفلة مما يعني الافراط والتفريط الناتج عن نسيان ذكر الله تعالى، وفي هذا يقول الله تعالى : « واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا».
ج/ التغرير الشيطاني :
وهذا السبب قد أغفل جانبه من حيث تأثيره على السلوك الإنساني وتحريفه للتصورات إذا لم ينتبه له ويحارب بسلاح ذكر الله تعالى، ولهذا فأغلب الفئات المسلمة نراها تغيب هذا الجانب من وعيها وحساباتها الفكرية والسلوكية حتى اننا نجد الكثير من الكتاب لا يأبهون بموضوع الشيطان بل قد يتشككون في وجوده. وهذه إحدى تغريراته بهم وهم لا يشعرون. وهذا التعامل مع الشيطان إما أن يكون بدافع مجاراة العلمانيين في دراساتهم النفسية الجسدية. والتي تحيل كل خيال أو فكر لا إرادي إلى ما يسمونه بالعقل الباطن أو الأفكار القسرية ذات الارتباط العضوي بالمخ أو فصوصه وما إلى ذلك. وإما أن يكون بسبب العجز عن التدليل على وجود الشيطان فيهمشون الحديث عنه خشية إضعاف الأدلة المؤيدة لتوجهاتهم وطرق تحليلهم للمسائل الدينية من منظورهم الخاص، وإما كل حسب هواه...
وهذا التهميش لدور الشيطان في نسيان الانسان لحقيقة الحقائق فيه إراحة للشيطان من العناء وفتح المجال لديه للعب بالإنسان إلى حد الإستحواذ عليه.
ومن بين الادلة الدالة على هذا نجد قول الله تعالى :«إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون». وكذلك في قوله تعالى «استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون».
ففي هذه الأسباب الرئيسية المؤدية إلى نسيان ذكر الله تعالى يتحمل الإنسان كامل المسؤولية لأن الغريزة التبعية أي الجسدية والمادية المالية والإجتماعية والمتحددة في غريزة البقاء والنوع لا تقوم مقام المبرر لنسيان الغريزة الأصلية وهي غريزة الروح المفطورة على توحيد الله تعالى والشهادة له بالربوبية والألوهية.
كما أن العامل الذاتي الأهوائي فهو عامل نفسي تتجاذبه أنانية الذات وانطوائيتها مما يسبب لها حجابا عن التطلع إلى المقام الأعلى الذي فيه سعادتها.
بعد هذا يأتي التغرير الشيطاني الذي يعد أضعف التغريرات بعد الشهوات الباطنية والظاهرية التي ينقاد الانسان ضعيف الهمة إلى نداءاتها مما يستتبعه عند الإفراط في الاستجابة لها. ضعف التمييز ونسيان أحوال النفس وطريقة تحصيل توازنها، عندئذ يأتي دور الشيطان كمتربص ومساهم في توسيع رقعة هذا الاختلال النفسي عن طريق الوسوسة. والتمويهات بالمخادعة والكيد رغم أنها ضعيفة التأثير على أهل الذكر من أولي البصائر كما يقول الله تعالى: «إن كيد الشيطان كان ضعيفا» لكنه رغم ذلك استطاع الاستحواذ على الإنسان حينما تختل موازين قواه النفسية كما هو الشأن عند شربه الخمر المؤدي إلى السكر والميسر المؤدي إلى الغضب والحقد. والزيادة في الحرص على المال إفراطا. ولضعف كيد الشيطان عند اولى الألباب قد يلجأ الشيطان إلى التشكيك في وجود نفسه لدى ضعاف العقول والقلوب كمكيدة لفتح المجال لوسوسته دون العمل على طردها وإخمادها. وكمثال على هذا النوع من المكائد : يحكى في بعض النكت الشعبية ذات البعد العلمي أن شابا ممن غرر بهم الشيطان. وجد فقيها في مجلس مع تلامذته في بادية ما خارج الكتاب، فأراد أن يعجز الفقيه البدوي ببعض مغرراته التي اكتسبها من المدينة المزيفة. فطرح عليه سؤالا مضمنه : أنكم تقولون أيها المسلمون أن الشيطان مخلوق من النار وأن الشيطان بعصيانه لله سيدخل النار، فكيف إذن أن النار ستحرق النار وتعذبها؟
فما كان من الفقيه إلا أن أخذ قطعة من الطين الصلب (الطوب) فقذفها على رأسه، فأخذ الشاب يشتكي ويتألم وهرع فارا بنفسه. فقال له الفقيه : إنكم تقولون بأن الإنسان كله مادة مخلوقة من الطين فكيف أن الطين يؤلم الطين ؟!!! فدل هذا الإجراء العملي على دليلين في آن واحد: الدليل الأول : هو أن الإنسان ليس مادة وحدها وإنما هو عنصر مخالف للمادة في طابعه الأصلي وهو أنه روح له وعي وإدراك. وعن طريقه يتلقى الجسد إحساساته ومشاعره.
والدليل الثاني : أن كيد الشيطان ضعيف أمام الادلة المستنيرة بذكر الله تعالى . بالإضافة إلى هذا فالشيطان مخلوق له نفس بها يعذبه الله في جهنم وأن غيابه عن المعاينة يطابق غياب الروح الإنساني عن المعاينة، لان كل اهتمامه منصب على صرف الروح عن التوجه إلى خالقها ونسيان ذكره. ولهذا فذكر الله تعالى هو المدد الأساسي للروح لطرد وسوسة الشيطان والحفاظ على التوازن الذاتي، مما يعني الرجوع إلى الفطرة الأصلية. «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله»