ثانيا: الإدراك الصوفي للتواصل الروحي بالذكر
وعلى هذا التواصل بين روح الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بواسطة الذكر والائتساء. يتأسس مبدأ التربية الروحية بين الشيخ والمريد في الطريقة الصوفية. لأن من مواصفات الشيخ أنه شخص يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم بالوراثة التسلسلية التشخيصية لظاهره وباطنه. أي روحيا وسلوكيا، وهذه الوراثة قد اكتسبها عن طريق الصحبة الدالة على ذكر الله تعالى، العبادة المتصلة والمحددة بطريقة الحال والوجد والذوق لمراحل القرب والتدرج في معرفة الله تعالى إلى مستوى حدده بصورة شرعية الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وانا أكره مساءته».
وهذا الحديث يحدد المعراج الروحي الذي تؤدي إليه العبادات وخاصة النوافل وعلى رأسها ذكر الله تعالى شرط الشروط لمواصلته، وهذا المعراج نجد له ثمرة ونتيجة حتمية هي السر في تحقيق التواصل والقبول بين الذاكر وسائر الكائنات المطابقة لمنهجه وسلوكه الروحي.
وتتجلى هذه النتيجة في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل عليه السلام فقال : إني أحب فلانا فأحبه. قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه اهل السماء. قال: ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض الله عبدا دعا جبريل فيقول : إني أبغض فلانا فأبغضه. قال : فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه. قال فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الارض».
وهذا القبول الذي يوضع لمن أحبه الله تعالى لا يدرك إلا بالمناسبة الذوقية والتواصل الروحي. ولهذا فإذا كان الشيخ من هذا الصنف وكان يعتمد منهجا روحيا يتحدد في وحدة الأوراد والوظيفة - أي مجالس الذكر الجماعي - التي تؤدى فيها الأذكار موحدة الصيغة والأسلوب فإن المريد الذي يسلك مسلك شيخه في هذا المنهج لا بد وأن يحدث بينهما تواصل روحي على مستوى الظاهر والباطن كاقتداء كلي من المريد بشيخه روحيا وسلوكيا. وبهذا التواصل تتم التربية ويصبح الشيخ مؤثرا في مريده وموجها له بحسب مستواه في إيمانه بالله واليوم الآخر وذكره الله تعالى كشروط ضرورية لتحصيل الأسوة الحسنة .
ولهذا كما يقول عبد الواحد بن عاشر في منظومته:
يصحب شيخا عارف المسالك يقيه في طريقه المهالك
يــــذكـره الله إذا رآه ويوصل العبد إلى مولاه
إذ التقرب إلى الله تعالى كما في الحديث الأول يمكن حمله على قطع المراحل الروحية باحوالها ووارداتها وابتلاءاتها حتى الحصول على المحبة الصادقة والتي هي الطاقة الرئيسية لامكانية اختراق الارواح للأجساد والاكوان والازمان. كما أشار إلى ذلك شيخنا سيدي حمزة القادري بودشيش رضي الله عنه.
ولهذا فما بين الحديث الأول والحديث الثاني يتأسس مبدأ التواصل بين الشيخ والمريد، وذلك للتوافق والتناسب الروحي الجامع بينهما والذي لم يتحقق إلا بالاداة الروحية المتواصلة والموحدة في الأسلوب والوصف والتطبيق. وهي ذكر الله تعالى. ومن خلال هذا أمكننا فهم الحديث الذي رواه أبو هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».
فالتعارف الروحي لا يكون إلا بالاداة والزاد الروحي. والاختلاف معناه غياب الزاد المحرك للاداة الواصلة كغياب الطاقة الكهربائية عند المكالمة الهاتفية. ومن هنا يمكن القول : أنه لا إمكانية لتحقيق وحدة الصف والكلمة عند المسلمين إلا بتوحيد كلامهم وعملهم الروحي وتكثيف حضوره والمنحصر في ذكر الله وسيلة وغاية. وذلك لتوحيد مشاعرهم اولا ثم بعد ذلك يأتي دور توحيد رؤاهم وأفكارهم. لأنه بغياب وحدة الشعور فالنتيجة هي غياب التواصل نتيجة التنافر والتدابر والتشرذم وبذلك تفتقد الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن سار على نهجه ممن ورثه في سلوكه الظاهري والباطني كامتداد تسلسلي ونموذجي عبر التاريخ إلى يومنا هذا.
وهذا الاستنتاج حول دور الذكر في تحقيق الوحدة السلوكية الروحية والجسدية نجد له صورة صريحة في حديث نبوي شريف يدل على أن الأداة والزاد الموحد في الدنيا بين المسلمين هو نفسه الموحد بينهم في الآخرة وهو ما يدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على إثر هم كأشد كوكب إضاءة قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض لكل امرئ منهم زوجتان كل واحدة منهما يرى ساقها من وراء لحمها من الحسن يسبحون الله بكرة وعشيا لا يسقمون ولا يتمخطون ولا يبصقون. آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب. ووقود مجامرهم الألوة - قال أبو اليمان يعني العود- ورشحهم المسك».
فسر الوحدة على قلب رجل واحد والمتجلي بعدم الاختلاف والتباغض يرجع اولا وأخيرا إلى ما نص عليه الحديث نفسه وهو «يسبحون الله بكرة وعشيا». وبهذا يبقى الذكر دائما في الدنيا والآخرة أداة وزادا للتواصل بين الأرواح والأجساد ويبقى شرط الشروط للائتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة روحية وتسلسلا وراثيا موصوفا. كما أنه يبقى الأمل العملي المنشود لتحقيق الوحدة العامة بين المسلمين وتوحيد صفوفهم وكلمتهم حتى إن هذه الوحدة قد تمتد لتصبح وحدة بين الذاكرين وسائر الكائنات شملا للعمل الموحد الذي يجمع بينها والمتمثل في قول الله تعالى « يسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا». فمن بين الدلالات الصريحة على هذا التواصل بسبب التسبيح والذكر ما نجده بخصوص الملائكة في هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم حف بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا. فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء الدنيا قال : فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك. قال وماذا يسألوني قال: يسألونك جنتك قال : وهل رأوا جنتي؟ قالوا : لا أي رب . قال: فكيف لو راوا جنتي؟ قالوا : ويستجيرونك قال : ومما يستجيروني؟ قالوا: من نارك رب قال : وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري. قالوا ويستغفرونك قال: فيقول قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا. قال: يقولون رب فيهم فلان عبد خطاء إنما مر فجلس معهم. قال فيقول: وله غفرت هم القوم لايشقى بهم جليسهم». وفي رواية البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: مايقول عبادي؟ قال: تقول: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله مارأوك. فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا...».
وكذلك نجد نصا في القرآن حاصرا لأسباب التواصل بين الإنسان والحيوان بل حتى الجماد وذلك في قول الله تعالى : «وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون» وتسبيحه هذا كانت صيغته كما ذكر الله تعالى في قوله:«وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننج المؤمنين». فبما أن الحوت من المسبحين وبما أن كل ذرة تسبح الله تعالى فإن موافقة المسبح في وحدة واتصال بالواحد الأحد أدى إلى عدم التعارض بين طبيعة حياة الآدمي وطبيعة حياة الحيوان لاتحادهما في حياة واحدة وهي الحياة بذكر الله تعالى أصل الوجود وخالقه. وهذا العطف والتوافق الحنيني بين الذاكرين وسائر الكائنات قد شوهد حسا ومعجزة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كما ترويه كتب الاحاديث والسير . وذلك كتسبيح الطعام والحصى في كفه صلى الله عليه وسلم وسماعه من طرف الصحابة سماعا حسيا. وكذلك حنين الجذع إليه عند فراقه أختم بقصته هذه الوظيفة التواصلية التوحيدية التي يؤدي إليها ذكر الله تعالى.«قال جابر بن عبد الله : كان المسجد مسقوفا على جذوع فكان عليه السلام إذا خطب يقوم إلى جذع منها فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار. وفي رواية انس حتى ارتج المسجد لخواره وفي رواية سهل وكثر بكاء الناس لما رأوه وفي رواية المطلب : وانشق حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت. زاد غيره فقال عليه السلام: « إن هذا بكى لما فقد من الذكر» خرجه أهل الصحة ورواه من الصحابة كثيرون»