وزعم الفخر الرازي أنه رأى في بعض الكتب أن العسل يتنزل من السماء كالزنجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه وتدَّخر بعضهُ في بيوتها لأنفسها لتتغدى به، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطيبة شيئاً كثيراً فذلك هو العسل. وهذا القول أقرب إلى العقل لأن طبيعة الزنجبين تقربُ من طبيعة العسل وقالوا لقد شاهدنا النَّحل تتغدى بالعسل.
وأجاب عن قوله : (يخرُجُ من بُطُونها) أي من أفواهها، لكن قول الأطباء أولى من قول الرازي فافهم. كما حُكي عن مالك أنه قال : "إنّا نُشاهد ونذوق في طعم العسل طعم تلك الأزهار التي تأكلها النحل وكذلك يوجد لونها وريحُها وطعمُها فيه أيضا" ويحضر هذا قول بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم له : (يا رسول الله، أكلتَ مغافير؟ قال: لا، قالت: فما هذه الريح التي أجِدُ منك؟ قال: سقتْني حفصة شربةَ عسل، فقالت: جَرَسَتْ نحلُه العُرْفُط) (تريد شجر الطلح وله صمغ يقال له المغافيركريه الرائحة)، فمعنى قولها جَرست نحلة العرفط أكلتْ ورَعتْ من العرفط الذي له الرائحة الكريهة. فثبت بهذا الدليل صحَّةُ قول المفسرين أنه يوجد في طُعم العسل ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل، لا ما قاله الرازي من أنه طل، لأنه لو كان طلاًّ لكان على لون واحدٍ وطبيعة واحدة.
وقوله أن طبيعة العسل تقربُ من طبيعة الزنجبين فيه نظر، لأن مزاج الزّنجبين معتدل إلى الحرارة وهو ألطف من السكر، ومزاج العسل حارٌّ يابسٌ في الدرجة المائية فبينهما فرق كبير.
وقوله كل تَجويفٍ في داخل البدن يسمَّى بَطناً فيه نظر أيضاً؛ لأن لفظ البطن إذا أطلق لم يرد به إلا العضو المعروف مثل بطن الإنسان وغيره، فركب الله سبحانه فيه من الشفاء ما لا يطلع على حقيقته إلا الأنبياء أو خواص الأولياء، فالضمير في قوله :(فيه شفاء للناس) يرجع إلى العسل وقد اختلف علماءُ السلف في هذا الشفاء، هل هو على العموم لكل مرض أو هو خاص بمرض دون مرض ؟ في ذلك قولان، أحدهما : أن العسل فيه شفاء من كل داء وكل مرض، قال ابنُ مسعود رضي الله عنه : "العسلُ والقرآن شفاء لما في الصدور"، وفي رواية أخرى عنه : "عليكم بالشفاءين القرآن والعسل". وروي أن ابن عمر ما كانت تخرج فيه قرحة ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل، ويقرأ : {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ}، ومن حديث أبي سعيد الخدري قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: (إنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ اسْقِهِ عَسَلًا فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقالَ: إنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَلَمْ يَزِدْهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقالَ له ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقالَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَقالَ: لقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَسَقَاهُ فَبَرَأَ).