وأكثر ما يعارضه المولعون بالإنكار إقامة مجالس الذكر. على الرغم من أن أحاديث صحيحة تُثبت ما يعارضون، كما سيأتي عند الاستدلال بها للذكر الجماعي والجهر به.. والمرضى بهوس الإنكار، واحتراف المعارضة والجدال العقيم، يُفتنون ويُتلفون عن طريق البحث عن الحق والحقيقة. فضاعت منهم فرصة البحث، وفرصة قبول نتائجه عند الآخرين، إذ أصدروا على أنفسهم الحكم بالباطل، وقَوْقَعوا بداخله، ولم يبق بيدهم إلّا الإنكار بتحدِّ وعناد. ومن الجهل والجهالة أن يجوز الاجتماع - شرعا -على أيّ أمر مباح، ويُعارَض المومنون في الاجتماع على ذكر خالقهم، في وقت عبَّأ فيه الشيطان جيوشه لمحاربة المقبلين على ربهم، فوافقوه على ما أراد من إفساد النيَّة وتثبيط العزائم، مع ادعاء عداوته، كما سيأتي في كلام إبراهيم الخواص {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ}(141) وهل من يحارب المجتمعين على ذكر الله، وتلاوة كتابه، والصلاة على نبيه، في طمأنينة وسكينة ورحمة، في وقت تضجّ فيه بعض المجتمعات الإسلامية، وتهتزّ بالخشونة والعنف والانحراف مصلحون أو مفسدون ؟ ومِن تَلَفِهم وارتكاس القيم أمامهم، أنهم لم يعودوا يفرِّقون بين من يستحق المحاربة، ومن يستحق التشجيع "مَنْ جَعلَ النّاسَ سَواء، ليسَ لحُمقِهِ دَواء" كما يقول المثل. وإنَّ أفضل ما ننصح به الذاكر ما تصحه به أحد العارفين، إذ يقول :
جُدَّ سَيْرًا لِلْمَنَازِلْ وَانْتَهِجْ نَهْجَ الأَوَائِلْ
لاَ تَصْغَ لِقَوْلِ عَاذِلْ إِنَّمَا الإصْغَا بَلِيَّة
وحتى نبقى مع السلفيين : الإمام ابن تيمية والشاطبي، نعتمد ما اعتمده الإمام ابن تيمية في كتابه "الإيمان" عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حول تقوية الإيمان بالذكر، والاجتماع من أجله، مع العلم بأنَّ الذكر الفردي، لا يحتاج فيه الذاكر إلى غيره. وما سيلاحظ من تعابير يذكرون، ونذكر، وذكرنا، ونجلس في مجلس ذكر... تدلّ على الاجتماع على الذكر من أجله، على عهد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد فيما استدلّ به الإمام ابن تيمية، إذ يقول :
روى الإمام أحمد عن محمد بن طلحة عن زُبَيد عن ذَرّ، قال : (كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه : "هلمُّوا نزداد إيمانًا، فيذكرون الله عزَّ وجلَّ").
وروى سفيان الثوري عن جامع بن شدَّاد، عن الأسود بن هلال، قال : كان معاذ بن جبل يقول لرجل : "اجلس بنا نؤمن نذكر الله تعالى".
وروى أبو اليمان أن عبد الله بن رواحة كان يأخد بيد رجل من أصحابه، ويقول : "قم بنا نؤمن ساعة، فنجلس في مجلس ذكر".
وقال الإمام ابن تيمية : روى الناس من وجوه كثيرة مشهورة عن حماد بن سلمة عن أبي جعفر عن جده عمير بن حبيب الخطمي وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "الإيمان يزيد وينقص ، قيل له وما زيادته ونقصانه ، قال : إذا ذكرنا الله ووحدناه وسبحناه فتلك زيادته ، وإذا غفلنا ونسيناه فذاك نقصانه" . (142) فكانت مجالس الذكر عند أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مجالس تقوية الإيمان. يقيمها المؤمنون بالله اليومن فيزدادون إيمنا، والمعارضون والمنكرون لمجالس تقوية الإيمان، والغافلون عنه تعالى، والناسون لآلائه ونعمه، ينتابهم نقصان الإيمان وضعفه.. وأقوى وأصحّ دليل على مشروعية الذكر الجماعي، والجهر به، الحديث القدسيّ المتفق عليه : (أَنَا مَعَ عَبْدِي إذَا ذَكَرَنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ) والذكر في الملأ يعني الاجتماع عليه. وقد لا يكون جهرًا، كما لا يكون الذكر في النفس إلّا سرًّا. وملأ العبد ملأ البشر، وملأ الله ملأ الملائكة. وإذا ذكره في الملأ الأعلى تحوَّل من ذاكر إلى مذكور عند ربِّه. الأمر الذي التبس على من سمع قول أحد العارفين : "أنا الذاكر المذكور" وقال : المذكور هو الله ! نعم، المذكور بالطاعة والامتثال هو الله، والمذكور بالمنّة والتفضّل والتكرّم من مولاه هو العبد الصادق المخلص.
.........
141 - سورة البقرة : 11-12
142 - الإيمان : ص 187