ثمَّ أشار إلى المقدمة الثانية مكتفيا عنها بذكرعلامتها فقال رضي الله عنه :
ومن حُكْمِ حال الانتباه إذا بدا .... شهودك حال النفس في غاية الفقر
فتستغفرَالرحمن من كل زلَّة ... وتسأله عفواً يرى البِشْر في النُّشر
وإن ذُكِرتْ دنيا اعتبرت وإن جرى ... لأُخراك ذكرٌ كنتَ منشرح الصَّدر
وإن ذُكر الجبَّار جل جلاله ... نَشَرتَ على العُلياءِ أَوْلِوي الفَخر
الانتباه : خروج العبر من رقدة الغفلة، ويقال شاهده إذا عاينه، والمراد هنا المعاينة القلبية والنفس، قال الشيخ أبو العباس أحمد البناء رضي الله عنه : "هو لفظ مشترك يُطلق على نحو من ثلاثمائة معنى" قاله بعض الفضلاء. وظاهر أن المراد هنا هو هذا المتنبه بكتابيه ولطائفيه.
والفقر : الخلو من الشيء ضد الغنى.
والاستغفار : طلب السِّتر على الذنب، والصَّون عن عذاب التخجيل والفضيحة، وهو عذاب روحاني.
والعفو : محو السيِّئات، والتجاوز عن الخطيئات حتى يسقط العقاب عنه والمؤاخدة، وهو عذاب جسماني.
والزلة : الخطيئة.
والرحمن: من أسمائه تعالى وتقدَّس مختصر به سبحانه، جاري مجرى العلم، قريب من اسم الله تعالى، وإن كان الرحمن مشتقًّا من الرحمة قطعا، قال الإمام أبو حامد رضي الله عنه : "فالرحمن هو العطوف على العباد بالإيجاد أولاً، والهداية إلى الإيمان وأسباب السَّعادة ثانيًا، والإسعاد في الآخرة ثالثًا، والإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعًا.
وفي التعبير به هنا مناسبة لا تخفى، وفي جمعه بين الاستغفار وطلب العفو، واسم الرحمن إيماء إلى ما ذكره المفسرون في قوله تعالى : {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا}من أنَّ الأول طلبَ سقوط العقاب والمؤاخدة وهو جسماني، ثم الثاني طلب الستر والخلاص من الفضيحة والتخجيل وهوروحاني، ثم الثالث طلب الثواب الجسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها، ثم الرابع طلب الثواب الروحاني وغايته النظر إلى وجه الله الكريم وتجلي نور جلاله وعلى كبريائه.
والبِِشر: - بكسر الباء وسكون الشين المحجمة - الطلاقة في الوجه.
والنشر : له معانٍ وهو هنا الحياة الثانية، وبين قوله البشر والنشر جناس مركب من نوْعين من التجنيس فإن اختلاف هيئة الكلمتين فقط نحو كَلام وكِلام بالفتح والكسر، يسمَّى جناسًا محرفا لانحراف إحدى الهيئتين عن الأخرى، واختلاف حرف منها فقط نحو دامسٍ وطامسٍ مع تقارب مخرج الحرفين يسمَّى جناساً مضارعا، والبِشر والنشر بينهما الاختلاف في الهيئة، وفي الحرف تقارب المخرج.
واعتبرت : إمَّا من الاعتبار أو من العبور والمجاوزة، وفي بعض النسخ "اعتزلت" أي : تمخيت (1) ببدنك وقلبك على حسب مرتبتك.
ومنشرح : أي منفتح وواسع، والصدر أعلا مقدم كل شيء.
والجبَّار : "من أسمائه تعالى وتقدّس، ومعناه فيه الذي تنفذ مشيئته على طريق الإجبار في كل أحدٍ، ولا تنفذ فيه مشيئة أحدٍ، والذي لا يخرج أحد من قبضته، وتقصر الأيدي دون حمى حضرته"، قاله الإمام أبو حامد رضي الله عنه. فهو على هذا من الإجبار الذي هو إنفاذ الحكم قهراً على العباد، قاله بعض الشيوخ، وتفسيره من الإجبار أولى، لأنه جاء في نسق أسماء العزة والجلال والملك، فلزم أن يكون على وضعها، وقيل معناه فيه سبحانه يرد الممكن من فساد دنيوي أو أخروي إلى صلاح وإرشاد فعلى هذا يكون مشتقًّا من الجبر الذي هو الإصلاح والتلافي وكلاهما لايق بالمحل والله أعلم. فإن من ذكر أنَّ سيده تنفذ مراداته في الأشياء جبراً ولا ينفذ فيه مراد أحدٍ لحقه زهو وعزَّة كما قيل :
قوم تخالجهم زهْوٌ بسيدهم والعبد يزهوا على مقدار مولاه
1 - تَمَخَّيْتُ منه : تَبَرَّأْتُ ، وتَحَرَّجْتُ