يقول ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه :
(لَوْ أَشْرَقَ لَكَ نُورُ اليَقِينِ لَرَأْيْتَ الآخِرَةَ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَرْحَلَ إِلَيْهَا وَلَرَأَيْتَ مَحَاسِنَ الدُّنْيَا وقَدْ ظَهَرَتْ كِسْفَةُ الفَنَاءِ عَلَيْهَا) .
قلت (والكلام لابن عجيبة) : اليقين هو العلم الذي لايزاحمه وهم ولايخالطه ريب ولايصحبه اضطراب مشتق من يقن الماء اذا حبس ولم يجر شبه به العلم اذا صحبته الطمأنينة ولم يبق للقلب فيه تحرك ولا اضطراب ، وإشراق نوره هو ظهور أثره على الجوارح فيظهر فيه الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ويظهر منه الانحياش الى الله والاشتياق الى حضرة جماله والسكون والخضوع تحت قهر جلاله والمسارعة الى ابتغاء مرضاته والمبادرة الى مظان محابه ولهج اللسان بذكره وشغل القلب بالفكرة في عظمته وهيمان الروح في حضرة قربه وسكرها من شراب حبه واغتمارها بشهود قربه ، فهذه علامة اشراق نور اليقين في القلب ومن علامته أيضا أن يصير الآجل عاجلا والبعيد حاصلا والغيب شهادة "إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ" ولنا في هذا المعنى :
فلا ترضى بغير الله حبا وكن أبدا بعشق واشتياق
ترى الامر المغيب ذا عيان وتحظى بالوصال وبالتلاق
كنت ذيلت بهما قول القائل :
فلا دهش وحام الحي حي ولاعطش وساقي القوم باق
فما الدنيا بباقية لحي وماحي على الدنيا بباق
فلو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة آتية حاضرة لديك أقرب إليك من ترحل اليها اذ هي الراحلة إليك والمدركة لك، ولرأيت محاسن الدنيا الوهمية الفانية قد ظهرت كسفة الفناء عليها، أي : قد انكسف نور وجودها بظهور ظلمة فنائها فصار ماكان ظاهرا باطنا وماكان باطنا صار ظاهرا وماكان كثيفا صار لطيفا وماكان لطيفا صار كثيفا وماكان غيبا صار شهادة وماكان شهادة صار غيبا ، وإنما بعد ذلك عن الخلق ضعف إيمانهم وقلة نور إيقانهم ولو أشرق نور اليقين في قلوبهم لرأوا الدنيا مكسوفة أنوارها بادية عوارها ،كما رآها حارثة رضي الله عنه حين أخبر عن حقيقة إيمانه ، فقد روى عن أنس رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شاب من الانصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كيف أصبحت ياحارثة ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا . فقال له : انظر ماتقول فإن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : يارسول الله عزفت نفسي عن الدنيا (أي أدبرت وهربت ) فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري فكأني بعرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها . فقال له : أبصرت فالزم عبد نور الله الايمان في قلبه . قال يارسول الله ادع لي بالشهادة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم بدر شهيدا ، فجاءت أمه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله قد علمت منزلة حارثة مني فان يكن في الجنة أصبر وإن لم يكن في الجنة ترى ماأصنع ..، فقال صلى الله عليه وسلم : أو هبلت ؟ أجنة هي ؟ إنها جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الاعلى ، فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ ياحارثة. وكما رآها معاذ بن جبل رضي الله عنه حين دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له كيف اصبحت يامعاذ؟ قال أصبحت مؤمنا فقال : إن لكل قول مصداقا ولكل حق حقيقة فما مصداق ماتقول ؟ فقال : يارسول الله ماأصبحت صباحا قط إلا ظننت لاأمسي وماأمسيت قط إلا وظننت لاأصبح ولا خطوت خطوة قط إلا ظننت أني لاأتبعها بأخرى وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها معها نبيها وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله وكأني أنظر الى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة . فقال صلى الله عليه وسلم : عرفت فالزم .
فهذان الرجلان الانصاريان أشرق نور الايقان في قلوبهما وشرح الله به صدورهما فرأوا ماكان آجلا عاجلا وماكان آتيا واصلا ، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح ، قيل يارسول الله هل لذلك علامة يعرف بها ؟ قال : نعم التجافي عن دار الغرور والانابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله أو كما قال عليه السلام ، وقال أحمد بن عاصم الانطاكي رحمه الله : اليقين نور يجعله الله في قلب العبد حتى يشاهد به أمور آخرته ويخرق به كل حجاب بينه وبينها حتى يطالع الآخرة كالمشاهد لها . قلت فإذا تكامل نور الايقان غطى وجود الاكوان ووقع العيان على فقد الاعيان ولم يبق إلا نور الملك الديان .
بسم الله ما شاء الله لا قوه الا بالله
ردحذف