قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى :
مررت بمقبرة ، فوجدت بهلول المجنون جالسا بين القبور، فأتيت نحوه لأستفيد من طرائفه وحكمه وذوبانه فى العشق الالهى ،فوجدته تارة ينظر إلى السماء فيستهل ،وتارة ينظر عن يمينه فيضحك ، وتارة ينظر عن شماله فيبكي ، فسلمت عليه فرد السلام .
فسألته عن مارأيت من حاله فقال :يامالك أرفع رأسي إلى السماء فأذكر قوله تعالى :
( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) فأستهل ،وأنظر إلى الأرض فأذكر ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) فأعتبر ، وأنظر عن يميني فأذكر قوله تعالى : ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ) فأضحك ، وأنظر عن شمالي فأذكر ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ) فأبكي.
فقلت : يا بهلول إنك لحكيم فهل تأذن لي أن أشتري لك قميص قطن، فقال افعل. فسارعت للسوق وأتيته بقميص قطن ، فنظر إليه وقلبه يمينا وشمالا ورمى به إلي وقال : ليس مثل هذا أريد !
فقلت : وكيف تريد ؟
قال : أريد قميصا من الإخلاص ، محفوظا من الدنس والإنتقاص ،غرس قطنه بالحقائق ،وحرس من جميع البوائق ،سقاه جبريل بماء السلسبيل ،فأينع حسنا وأثمر قطنا ،فلقطته أيدي الكرام البررة ،التالين لسورة الحمد والبقرة ، ثم حلجته أكف الوفاء بعز وصفاء من غير جفاء ،ثم نخلته الأوتار المتصلة بالأنوار ، وغزلته مغازل الحمد والثناء بالمحبة والإعتناء ،وكان هو للابسه من النار حجابا ، فهل تقدر يامالك على هذا ؟
فقلت : إنما يقدر من خصك بوصفه ، وألهمك لمعانيه وكشفه .
ثم قلت : يابهلول صفه لي لألبس هذا القميص !
قال نعم :"إنما يلبسه من خصه الله بأنواره ، وكتبه في ديوان أبراره ،وأحياه بالسابقة ، وقواه بالعزيمة الصادقة ،فجسمه بين الخلق يسعى ،وقلبه بين الملكوت يرعى ،فلا يتكلم بغير ذكر الله ،ولا يغفل عن الله لحظة".
ثم صاح صيحة عظيمة وقام وهو يقول : ربي إليك فر الهاربون ، ونحوك قصد الطالبون ، وببابك أناخ التائبون.
ثم صاح صيحة عظيمة وقام وهو يقول : ربي إليك فر الهاربون ، ونحوك قصد الطالبون ، وببابك أناخ التائبون.