آخر الأخبار

جاري التحميل ...

البعد التوحيدي للذكر في الإسلام (الوسيلة والغاية) (19)

2 ) التلازم بين حال الداعية والذكر في الدعوة :

          وحينما نرجع الى القرآن الكريم لاستنباط شروط الداعية والدعوة إلى الله نجد أنه يؤسس نسقا منتظما يحدد تلك الشروط تأسيسا متلازما وذلك من خلال موضوع شرح الصدر وعلاقته بذكر الله تعالى والذي تضمنته سورة «الشرح» والآيات المصرحة بالشرح.

          فأما سورة الشرح فهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءت على صيغة الامتنان والتذكير بنعمة الله العظمى وخصوصية الخصوصيات التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم وهي قول الله تعالى : «ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا. فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب».

          وأما آيات الشرح فنجدها على صيغة الطلب للشروع في الدعوة وعلى صيغة التبيين لبعد شرح الصدر وآثاره على الإيمان والسلوك. ففيما يخص الصيغة الأولى نجدها في طلب سيدنا موسى عليه السلام حينما أمره الله تعالى بدعوة فرعون إلى دين الله تعالى بقوله «اذهب إلى فرعون إنه طغى. قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. واجعل لي وزيرا من هلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في مري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا».

          وفي الصيغة الثانية نجد قول الله تعالى في حق الصالحين عموما : «أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله. أولئك في ضلال مبين» وقولهفمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء».

          ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرح ومعناه في قوله تعالى:« فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للإسلام» فقال:«هو نور يقذفه الله تعالى في القلب» فقيل وما علامته فقال : التجافي عن دار الغرور والانابة إلى دار الخلود».

          فوحدة الغاية هي نتيجة انشراح الصدر. وهي دليل الصدق في الدعوة ومشروعيتها. ومن هنا نجد الربط واضحا بين البداية والغاية سواء في سورة الشرح أو آيات الشرح ففي سورة الشرح ابتدأ الخطاب ب « ألم نشرح لك صدرك.» وانتهى ب  « وإلى ربك فارغب». وفي آيات الشرح نجد نفس الغاية في دعوة سيدنا موسى عليه السلام فهي ابتدأت ب «ربي اشرح لي صدري». وانتهت ب «كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا». وفي الآية المؤسسة والدالة على الشرح بصفة عامة ابتدأت ب «أفمن شرح الله صدره للإسلام» وانتهت كغاية ونتيجة في حالة عدم وجود شرح ب «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله».

          وأما ما يقع بين الشرح كمبدأ وذكر الله كغاية. فإنه ليس سوى عمل مرحلي ووسيلة ظرفية يخضع نوعها لمستوى شرح الصدر وملازمة ذكر الله، وإلا ففي حالة غياب هذين الشرطين فلن تتوفر السيرورة السليمة للدعوة ولن يكون هناك تيسير ولا تعضيد. إذ شرح الصدر يعني اتساعه و انبساطه للتحمل والأداء، وهذه الاحوال تكون كفيلة بتحقيق المرونة المشروعة في الدعوة إلى الله قصد إيصالها بتنوع الأساليب والصيغ وبصورة مقبولة ومعقولة تطبعها أريحية اخلاقية راقية أساسها الصبر والتيسير والبشارة والتفاؤل وما إلى ذلك مما يسبب جذبا نفسيا وروحيا للمدعو نحو الدعوة من خلال سلوك الداعية. ولهذا كان التلازم بين الذكر وشرح الصدر تلازما أساسيا في الدعوة إلى الله، وإذا لم يتوفر شرح ولا ذكر فالنتيجة لن تكون سوى ضيق أفق فكري وسلوكي يتسم بالتشدد والعنف الذي لا مبرر له والانتقام للذات، وهذا هو الملاحظ على الكثير من المتسلقين لمقام الدعوة ممن لم يتحصنوا بحصن ذكر الله تعالى. فلم تتحقق بينهم وبين الدعوة وحدة و بالتالي لم يبلغوها إلى الناس على وجهها المطلوب فيتسببون بذلك في ردود عكسية من طرف الموجهة إليهم قد تصل في بعض الأحيان إلى مستوى النكسات سواء في حق الداعية او المدعو فيكون حال الداعية حينذاك انه لا ظهر أبقى ولا ارضا قطع. والسبب في كل ذلك راجع كما قلنا إلى غياب المناسبة بين الداعية والدعوة من جهة وبين الداعية والمدعو من جهة أخرى ثم بين الغاية الإبتدائية والنهائية عند ممارسة الدعوة. إذ الذي يجعل في بداية دعوته هدفا سياسيا او اقتصاديا أو اجتماعيا مصلحيا محدودا فإنه لن يصل إلى ذلك الهدف حسب ما يتوقع وتحت لواء الدعوة إلى الله مظهرا. لان هذه الدعوة أي الدعوة إلى الله لا تقبل الشريك في الغايات والاهداف رغم ان الداعية فيها تكون له استحقاقاته الموضوعية واهليته في الحكم أو التسيير الاقتصادي والإجتماعي وما إلى ذلك.
          فلقد كان بإمكان سيدنا موسى عليه السلام أن يطلب من فرعون التنحي عن السلطة ابتداء لأن له الأسبقية والأفضلية على فرعون في الحكم وسياسة البلاد والعباد لما آتاه الله من الشريعة الضامنة للعدالة ووضع الأمور في مكانها المناسب، غير ان موسى عليه السلام لم يطلب من فرعون ابتداء وانتهاء سوى الاستجابة للدعوة بالإيمان بالله رب العالمين، والتخلي عن ظلم الناس بغير حق والتوقف عن الافساد في الأرض، وهذا هو المقصد من الشريعة والمتمثل في تحقيق الصلاح على الارض كما جاء في القرآن الكريم على لسان نبي الله: شعيب عليه السلام :«إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله».

          وقد تميز طلب موسى الاصلاحي هذا من فرعون بليونة وانشراح صدر كما عبر عنه قول الله تعالى : «واصطنعتك لنفسي إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري. اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى».

          وهذا الأسلوب قد بلغ ذروة المناسبة بين حال الداعية ومصدر الدعوة وخطابها وطبيعة المدعو ونفسيته، غير أن فرعون كان قد بلغ الذروة في الشذوذ النفسي والاخلاقي، إذ أنه قد بلغ حدا من الفساد والطغيان يصعب كليا إصلاحه مما يستوجب معه تنحية شخصه من الوجود لا سلوكه فقط. لانه أصبح غير قابل للتغيير وذلك لأنه رفض الدعوة الحقيقية التي هي الدعوة إلى الله ابتداء وانتهاء.

          وهكذا فتبقى البداية والغاية في دعوة الرسل والانبياء والاولياء هي حال القلب ولسانه فحاله الانشراح ولسانه ذكر الله تعالى. إذ لا يمكن تصور صدر منشرح بغير ذكر الله تعالى كما لايمكن تصور إكثار من ذكر الله تعالى دون انشراح صدر، وهو ما فهمناه من آيات الشرح كما أننا نجد إشارة قرآنية في نفس الموضوع وذلك بتعزيز موقف الداعية إلى الله حينما يتعرض صدره إلى نوع من الانقباض بسبب معارضة خصوم الدعوة وإذايتهم له وذلك بالتنبيه على ذكر الله كوسيلة وحيدة للحفاظ على انشراح الصدر في الدعوة إلى الله. وفي هذا يقول الله تعالى منبها رسوله الكريم ودالا له على الزاد المقوي في الدعوة إليه:«ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى ياتيك اليقين». 

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية