وكما كان القرآن الكريم منبعا استقى منه الصوفية تصوفهم، كذلك كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم التعبدية وأخلاقه وأقواله مصدرا من مصادر التصوف، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء وفيما يلي سنحاول بيان ذلك :
حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله :
يمكننا التمييز في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بين فترتين. حياته قبل أن يبعث رسولا، وحياته بعد البعثة.
وفي كل فترة من هاتين الفترتين وجد الصوفية لأنفسهم مصدرا غنيا فيما استمده من صنوف العلم وضروب العمل.
ونحن إذا تأملنا حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي لوجدنا أنها تنطوي على معاني الزهد والتقشف والانقطاع والتأمل في الكون استكناها لحقيقته.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء كلما أقبل شهر رمضان، مبتعدا عن صخب الحياة، زاهدا في نعيمها وترفها، متقللا في مأكله ومشربه، ومتأملا في الوجود، فأتاح له هذا كله صفاء القلب، وكان تحنثه في غار حراء تمهيدا لنبوته حتى نزل عليه جبريل عليه السلام بالوحي، فقال له : اقرأ، فقال له الرسول، ما أنا بقارئ، حتى أمره جبريل بأن "اقرأباسم ربك الذي خلق" خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم".
لفقد كانت حياة النبي في غار حراء بما فيها من تحنث وتقلل في المأكل والمشرب وتأمل في الكون، صورة أولى للحياة التي سيحياها فيما بعد الزهاد والصوفية، والتي أخضعوا أنفسهم فيها لضروب من الرياضات والمجاهدات والأحوال، كالغيبة والفناء في مناجاة الله، والتي هي ثمرة الخلوة، وقد أشار الإمام الغزالي إلى استناد الصوفية في هذا المسلك إلى عزلة النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: "الفائدة الأولى (للعزلة): التفرغ للعبادة والفكر والاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق، والاشتغال باستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة، وملكوت السموات والأرض، فإن ذلك يستدعي فراغا، ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إليه...، فالعزلة أولى بهم (أي الصوفية)، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء، وينعزل إليه، حتى قوي فيه نور النبوة، فكان الخلق لا يحجبونه عن الله، فكان ببدنه مع الخلق، وبقلبه مقبلا على الله تعالى".
ويقول السهروردي البغدادي في كتابه "عوارف المعارف" : قال يحيى بن معاذ رحمه الله : الوحدة منية الصديقين، ومن الناس من ينبعث من باطنه داعية الخلوة وتنجذب النفس إلى ذلك، وهذا أتم وأكمل وأدل على كمال الاستعداد. وقد روي من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.
"... من عائشة رضي الله عنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، فكان يتي حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء .. إلخ الحديث".
أما عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي عليه فكانت أيضا متصفة بالزهد والتقلل في المأكل والمشرب، حافلة بالمعاني الروحية التي وجد فيها الصوفية منبعا فياضا لهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آخدا نفسه بالتقشف، كثير العكوف على العبادة والتهجد، حتى لقد نهاه القرآن عن ذلك في قوله تعالى :{طَهَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى}.
وأما عن اخلاقه صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ فيها الكمال، وقد قال الله تعالى عنه : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم}، وسُئلت عائشة عن خلقه فقالت : "كانَ خُلُقه القرآن يَرْضى بِرِضَاه، ويَسِخَطُ بِسَخَطِه".
وكانت نفسه منجذبة إلى عالم الربوبية، وكانت بطبيعتها شديدة النفور عن اللذات الباطلة والسعادات الزائفة التي يمعن الناس في الأخد بها والخضوع لها، ولم يُعرف عنه - حتى قبل بعثته - شيء مضاد للخلق الكريم.
وكان النبي صلى الله عليهه وسلم معروفا بالحياء، فروى أبو سعيد الخدري، قال : ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خِدْرها ، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه ).
وأما عطاؤه وجوده صلى الله عليه وسلم فقد كان فيهما المثل الأعلى، فعن جابر قال : ما سئل رسول الله صلى اللعليه وسلم شيئا قط فقال : لا، فكان يعطي من سأله إذا وجد، وإلا وعده بالعطاء إذا أتاه المال.
وليس من شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المثل الأعلى للمسلمين جميعا بما فيهم الصوفية. لقوله تعالى : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا.