{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
الإشارة
من حكمة المدبر الحكيم أن دبر ملكه العظيم، ووجه كل فرقة بوجهه من مصالح عباده، أفناه فيها وولاه إياها. فقوم اختصهم لمحبته واصطفاهم لحضرته وهم العارفون، وقوم أقامهم لخدمته وأفناهم في عبادته وهم العباد والزهاد، وقوم أقامهم حمل شريعته وتمهيد دينه وهم العلماء العاملون، وقم أقامهم لحفظ كتابه رسماً وتلاوة وتفهماً وهم القرّاء والمفسرون، قال تعالى:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحِجر: 9]، وقوم أقامهم لتسكين الفتن ودفع المظالم والمحن وهم الحكام ومَن يستعان بهم في تلك الوجهة، وقوم أقامهم لحفظ نظام الحكمة وهم القائمون بالأسباب الشرعية على اختلاف أنواعها وتعدد فروعها، وقوم أعدهم لظهور حلمه وعفوه فيهم وهم أهل المعاصي والذنوب، وقم أعدم للانتقام وظهور اسمه القهار وهم أنواع الكفار. فكل وجهة من هؤلاء توجهت لحق شرعي أقامتها القدرة فيه، وحَكم بها القضاء والقدر، إلا أن القسمين الأخيرين لا تقررهما الشريعة. فلو حسنت المقاصد لكان الكل عُمالاً لله، فيقال لهم: { استبقوا الخيرات } بتحسين المقاصد والنيات، وبادروا إلى الطاعات قبل هجوم هادم اللذات، أينما تكونوا يجمعكم للحساب، وتُعاينوا جزاء ما أسلفتم من عذاب أو ثواب،ومن حيث خرجت أيها العارف فولِّ جهتك وكليتك لمسجد الحضرة باستعمال الفكرة والنظرة، فإنها حق وما سواها باطل، كما قال الشاعر:
ألا كُلُّ شيء مَا خَلاَ اللّهَ باطلُ وكُلُّ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زائلُ |
وحيثما كنتم أيها العارفون فولّوا وجوهكم إلى قبلة تلك الحضرة، واعبدوا ربكم بعبادة الفكرة، فإنها صلاة القلوب، ومفتاح ميادين الغيوب، وفي ذلك يقول القائل:
يَا قِبْلَتِي في صَلاَتِي إذَا وقَفْتُ أصَلِّي جَمَالُكم نُصْبَ عَيْنِي إليهِ وَجَّهْتُ كُلِّي |
فإذا تحققتم بهذه الحضرة، وتحصنتم بحصن الشهود والنظرة، انقطع عنكم حجج خصيم النفس والجنس، وتنزهتم في رياض القرب والأنس، إلا الخواطر التي تحوم على القلوب، فلا تقدح في مشاهدة الغيوب، فلا تخافوا غيري، ولا تتوجه همتكم إلا لإحساني وبرَّي فإني أتم عليكم نعمتي، وأرشدكم إلى كمال معرفتي، وأتحفكم بنصري ومعونتي.