عمد بعض المنكرين على التصوف ، إلى تشويه التصوف ، والادعاء عليه ، والتشنيع على أهله ، وقد انساق معهم للأسف بعض الدارسين ، الذين لم يميزوا بين الغث و السمين ، والأصل و الانحراف في التراث والممارسة الصوفية الإسلامية عبر صيرورتها التاريخية ، والتي تأثرت خلاف ما يعتقد البعض ، بالصراعات المذهبية و الكلامية و التحولات الاجتماعية و السياسية.
حتى ذهب البعض منهم إلى اعتبار أن التصوف دخيل على المنظومة الروحية والمعرفية الإسلامية ، ونسبوه إلى ثقافات وديانات أخرى .
ومن بين الطروحات التي روج لها كثيراً من قبل المتحاملين على التصوف الإسلامي ما تم التعبير عنه باعتقاد تجاوز التصوف للدين وعدم انضباطه لتعاليمه.
والواضح أن قائل هذا الكلام لا يفقه لا معنى الدين ولا معنى التصوف ولا معنى الطريقة ، ذلك لأن أصل الدين العبادات والتعاليم ، فمتى أسقطها أحدهم سقط انتماءه إلى الدين مهما يكن سلوكه وأخلاقه .
فلا يعقل أن إمرءاً مؤمنا مسلما يقول بإسقاط العبادة التي فرضها الله عليه وبأنها غير ضرورية والعبرة في العبادات هو تأكيد الإيمان القلبي بالممارسة العملية التي أصلها إتباع الوحي الإلهي ، فتوحيد الله عز وجل وتنزيهه عن الشريك لا يستقيم إلا بالصلاة والصوم والزكاة والحج عند الاستطاعة كما جاء في الحديث الشريف : (بني الإسلام على خمس …)، والتصوف هو ما أجمع المتصوفون على تعريفه بالإحسان لما جاء في الحديث الشريف الإحسان أن (تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وفي شرح ابن حجر العسقلاني يقول أن هذا هو منهج أهل التحقيق ، لذلك فإن أي ابتعاد عن الدين وتعاليمه هو ابتعاد عن التصوف أي الأخلاق والسلوك في مظهرها النبوي ، فالرأي السابق الذكر لا يمضي فقط في إتجاه فصل التصوف عن الدين ،بل ينحو نحو فصل الأخلاق والسلوك عن العقيدة .
وإن أهم رد يمكن أن نسوقه هنا للبرهنة على خطأ مثل هذا التصور هو رأي محي الدين ابن عربي في رسالته العلوم الإلهية والأسرار الربانية حيث يعرف الطريقة بقوله : (فاعلم أن الطريق إلى الله الذي سلكت عليه الخاصة من المؤمنين الطالبين نجاتهم دون العامة الذين شغلوا أنفسهم في غير ما خلقوا له ، أنه على أربع شعب بواعث ودواعي وحقائق ، وأخلاق ، والذي دعاهم إلى هذه الدواعي والبواعث والأخلاق والحقائق ، ثلاثة حقوق تعرضت عليهم ، حق الله ، وحق للخلق ، وحق لأنفسهم ، فالحق الذي لله تعالى عليهم ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، والحق الذي للخلق عليهم كف الأذى كله عنهم ، ما لم يأمر به الشرع من إقامة حد وصنائع معروف معهم ، على الاستطاعة والإيثار ، ما لم ينه عنه الشرع ، فإنه لا سبيل إلى موافقة الغرض إلا بلسان الشرع ، والحق الذي لأنفسهم عليهم أن لا يسلكوا بها من الطرق إلا الطريق الذي فيه سعادتها ونجاتها ، وإن أبت فالجهل قام بها ، أو سوء طبع ، فإن النفس الأبية إنما يحملها على إتيان الأخلاق الفاضلة دين أو مروءة ، فالجهل يضاد الدين ، فإن الدين علم من العلوم ، وسوء الطبع يضاد المروءة ...).
يقول سيدي بن عجيبة في شرح الحكم العطائية : (اعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات، حتى تقطع ست عقبات، العقبة الأولى فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية، العقبة الثانية فطم النفس عن المألوفات العادية، العقبة الثالثة فطم القلب عن الرعونات البشرية، العقبة الرابعة فطم النفس عن الكدورات الطبيعية، العقبة الخامسة فطم الروح عن البخورات الحسية، العقبة السادسة فطم العقل عن الخيالات الوهمية، فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية وتطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية وتلوح لك في العقبة الثالثة أعلام المناجاة الملكوتية ويلمع لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلات القربية وتطلع لك في العقبة الخامسة أنوار المشاهدات الحبية وتهبط من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية فهنالك تغيب بما تشاهده من اللطائف الإنسية عن الكثائف الحسية ).
وقد تعرض الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني، إلى إشكال الإنكرار على الصوفية بقوله : ولا يكفي المعترض على الصوفية معرفة هذا القدر ـ أي من علومهم ـ بل لابد من زيادة منازل عندهم يعرفها، وبعد ذلك ربما إن علمها ، تراه أول قائل بما قالوا ، فيتوافقان وتنقلب عين جهله علما ، والنكرة معرفة أو إيمان ، يصير كل ذلك عنده رأي عين.
معتبرا أن أصل الاعتراض ، الجهل بعلوم القوم ، حيث يقول فأول ما يحق على المنكر حتى يسوغ له الانكار على أقوالهم و أفعالهم و أحوالهم ، أن يعرف سبعين أمرا جعل أهمها ثلاثة أمور كالتالي :
1 ـ إطلاعه على تفسير القرآن خلفا وسلفا ليعرف أسرار الكتاب والسنة ومنازع الأئمة المجتهدين، ويعرف لغات العرب في مجازاتها و استعاراتها حتى يبلغ الغاية.
2 ـ كثرة الاطلاع على مقامات السلف و الخلف في معاني آيات الصفات وأخبارها ، ومن أخذ بالظاهر ومن أوَّل.
3 ـ وأهمها معرفة اصطلاح القوم فيما عبروا عنه من التجلي الذاتي و الصوري وما هو الذات وذات الذات ، ومعرفة حضرات الأسماء و الصفات ، والفرق بين الحضرات ، والفرق بين الأحدية و الواحدية ، ومعرفة الظهور و البطون ، و الأزل و الأبد ، وعالم الكون و الشهادة ، وعالم الماهية و الهوية ، والسكر و المحبة .
ثم يقول ، فمن لم يعرف مرادهم كيف يحل كلامهم أو ينكر عليهم بما ليس مرادهم
إن الصوفي حقيقة ، في نظر الشيخ الكتاني هو عالم يعمل بعلمه على وجه الإخلاص ، وكل من رمى ميزان الشريعة عن ملاحظته زمنا ما ، فهو ممكور به ممقوت ، لا قدم له عند القوم ، ولا هو منهم ، بل هو غالط ، لعبت به أيدي الهوى ، كما قال الشيخ الكتاني ، ليتبين للذين يطعنون على التصوف من جهة رميهم بالقول بإسقاط التكاليف الشرعية عنهم ، أنه اتهام باطل لا أساس له مطلقا في منهاج أهل التحقيق الصوفية الأخيار .