وفي نفس الخط سار الإمام الشاطبي، فقد ذكر أن علماء الأندلس سُئِلوا عن مجالس الذكر، وما يقع فيها من تلاوة القرآن، والذكر والسماع والمدح، والموعظة الحسنة، فأجاب أحدهم بالجواب، الذي أتى به بعد السؤال. ونصّ السؤال :
ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين ؛ يجتمعون في رباط على ضفّة البحر في الليالي الفاضلة ، يقرؤن جزءا من القرآن ، ويستمعون من كتب الوعظ والإرشاد والرقائق ما أمكن في الوقت ، ويذكرون الله بأنواع التهليل والتسبيح والتقديس ، ثم يقوم من بينهم قوّال - مسمِّع - يذكر شيئا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات الصالحين ، وذكر آلاء الله ونعمائه ، ويشوقهم بذكر المنازل الحجازية والمعاهد النبوية ، فيتواجدون اشتياقا لذلك ، ثم يأكلون ما حضر من الطعام ، ويحمدون الله تعالى، ويرددون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويبتهلون بالأدعية إلى الله في صلاح أمورهم ، ويدعون للمسلمين ولإمامهم ، ويفترقون" نفس الشيء يقع في مجالس ذكر الطرق الصوفية القائمة على الكتاب والسنّة بالمغرب. والرباط يعني الزاوية.
"ومن تمام السؤال : فهل يجوز اجتماعهم على ما ذكر ؟ أم يمنعون وينكر عليهم ؟ ومن دعاهم من المحبّين إلى منزله بقصد التبرك ؛ هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه المذكور أم لا ؟ فأجاب - الشيخ الأندلسي يقول الإمام الشاطبيّ - بما محصوله :
مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي رياض الجنة ، ثم أتى بالشواهد على طلب ذكر الله .
وأما الإنشادات الشعرية ؛ فإنما الشعر كلام : حسنه حسن ، وقبيحه قبيح ، وقد قال القرآن في - استثناء - شعراء الإسلام : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}[143]، وذلك أن حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعبا لما سمعوا قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}[144]؛ بكوا عند سماعها ، فنزل الاستثناء ، وقد أنشد الشعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورقت نفسه الكريمة ، وذرفت عيناه لأبيات أخت النضر ؛ لما طبع عليه من الرأفة والرحمة". [145].
قال الإمام الشاطبي تعليقاً على النص: فكان مما ظهر لي في هذا الجواب : أن ما ذكره في مجالس الذكر صحيح إذا كان مما اجتمع عليه السلف الصالح ؛ فإنهم يجتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم ، حتى يتعلم بعضهم من بعض ويأخذ بعضهم من بعض ، فهو مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلونَ كتابَ الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نَزَلَتْ عليهم السَّكينةُ ،وغشيتهم الرَّحمةُ، وحفَّت بهم الملائكةُ، وذكرهم الله فيمَن عنده) ، وكذلك الاجتماع على الذكر، فإنه اجتماع على ذكر الله، ففي رواية أخرى أنه قال : (لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ ... الحديث المذكور) [146] فكان التكامل بين ما اعتمده الإمام الشاطبي وابن تيمية..
** ** **
143 - سورة الشعراء 226
144 - نفس السورة 225
145 - الاعتصام 226/1
146 - الاعتصام 267/1