آخر الأخبار

جاري التحميل ...

المنهج الصوفي المعرفي والسلوكي في حياة الأستاذ النورسي

المنهج الصوفي المعرفي والسلوكي في حياة الأستاذ النورسي

المنهج الصوفي المعرفي والسلوكي في حياة الأستاذ النورسي
محاضرة ألقيت في ندوة 
(الإدراك الروحي بين التصوف والنورسي)
استانبول 25-26/7/2005

أولًا - تمهيد:

يتميز عظماء أمتنا الذين انفعل الزمان لسِيَرِهم، بأنهم جمعوا من معين دين الإسلام أمورًا ثلاثة :

- العلم الواسع القابل للتطبيق العملي.
- والدعوة المتدفقة بحيويتها وحركتها.
التصوف المحرق الذي ينفخ الروح في العلم والدعوة.

والأستاذ النورسي واحد من أولئك العظماء، الذين جمعوا تلك المضمونات، ومزجوها في وعاءٍ واحدٍ، حتى إنه يكادُ غير المستبصر لا يميز بين تلك المضمونات الثلاثة في حياته ورسائله، وربما قرأ بعضهم أو رأى مضمونًا واحدًا يتناسب مع شخصه وفكره لا مع حياة الأستاذ وسيرته الشاملة، وهو بهذا يقرأ ما وصل إليه هو من الأستاذ، ولا يكون قارئًا لما كتبه الأستاذ نفسه. 
ومن هنا كان للندواتِ الفضلُ في فرز الموضوعات، وتنبيهِ الباحثين والدارسين على الجوانب التي لم تلح لهم من قبل، مع أنهم يمرون عليها مصبحين وفي الليل، ولا يتدبرون ما فيها من المعاني والآيات.
ولعلَّ كثرةَ أخبارِ الأستاذ في الدعوة والجهاد والعلوم، شغلتْ بعضهم عن رؤيةِ سِرِّه الباطن وحقيقته الباهرة.
وأجزم بتصوف الأستاذ، وحسبي لمعرفة رقيِّ تصوفه أنه بلسان قلمه الصادق يقِرُّ بأنه ارتقى إلى رتبة "تلميذ القرآن"، ويحمد الله تعالى على أن وُفِّق إلى "جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وإرشاده" ويكشف النقاب عن فلكه بين شموس التصوف وأعلامه الذين وصلوا إلى رتبة التلمذة على القرآن بقوله: "فانظر إلى تلاميذ التنـزيل من الأولياء أمثالِ الكيلاني، والرفاعي والشاذلي".
ولقراءة تصوف الأستاذ وتلمس بركاتِ سلوكه، لا بد من التصنيف والتفقيـر، وقد جعلت البحث في المحورين الآتيين:

- تصوف الأستاذ في حقائقه.
- وتصوف الأستاذ في طرائقه.

وما أعنيه في هذا التقسيم راجعٌ إلى كونِ الدينِ أركانًا ثلاثةً، " الإسلام والإيمان والإحسان" وكونِ "ركني الإسلام والإيمان" كالوسائل والطرائق لركن الإحسان، وكون التصوف في غاياته إحسانيًا، وفي طرائقه إسلاميًّا إيمانيًّا .

ثانيًا – البحث:

أ- تصوف الأستاذ في حقائقه:

قدمتُ الحقائق على الطرائق؛ لأنها المقصود والغاية، وما أكثر المشتغلين بالطرائق، وما أقل المتحققين بالحقائق. ورحم الله القائل:

خليليَّ قُطّاعُ الفيافي إلى الحمى كثيرٌ فأما الواصلون قليلُ

ولا أعني بالمتحققين بالحقائق من تكلم باصطلاحها، فالمتكلمون باصطلاحاتها كثيرٌ أيضًا، ولكنّي أعني بهم من سلكوا بقلوبهم وأرواحهم، بعدما تبينوا المعالم بعقولهم، وساروا إلى مولاهم بكُلِّ ما آتاهم من عطيّةٍ وفضل.
والأستاذ النورسي هو من هذا النوعِ الفاضل، الذي يَعتبرُ نظر العقل، ثم يسير فاتحًا بصر قلبه وروحه، مشاهدًا أمامَه في هذا المسلك عظماءَ أهلِ الحقيقة كالإمامِ الغزالي ، وجلالِ الدين الرومي.

أ-1- حقيقة معرفة الله:

أ-1 - أداة هذه المعرفة:

إن أداة المعرفة عند الأستاذ هي الروح والقلب، وحين استرشد بالقرآن الكريم سلك إلى حقائقه بروحه وقلبه وقال معبرًا عن سيره: "فشرع بإرشادٍ من ذلك الأستاذ القدسيِّ، بالسلوك بروحه وقلبه" . وبيَّـنَ أنه ما كتب مثنويَّه إلا ليكون معبرًا عن ذوقه وشهوده فقال: "ما كتبتُ إلا ما شاهدتُ" ؛ لأن ذلك المثنوي العربي هو "نوع تفسيرٍ شهوديٍّ لبعض الآيات القرآنية" .
وقال : " والقلب مرآة الأحد الصمد، لكن له شعورُ إحساس بما تجلّى فيه، وعلاقةٌ مفتونيّةٌ بما تمثل فيه، خلافًا لسائر المرايا " .
وليس مقبولًا عند الأستاذ أن يخوض الفكر والعقل في الحقائق الصوفية الذوقية بمقاييسهما المجردة، وهو يرى أنَّ أهل الفكر والعقل حينما حصروها في المقاييس الفكرية والعقلية جعلوها مصدر كثير من الأوهام والأفكار الباطلة.
وكان يرى أن مداومة النظر في مجرد كتب الفلسفة تورث العقل بعض الأسقام، وأنه لا بد للحكيم الذي يطالعها من تصفية عقله من شوائبها، وقال يصف سيره : "بل جهد كل الجهد أولًا لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثته إياها مداومة النظر في كتب الفلسفة" .
وقال: "قد شاهدتُ ازدياد العلم الفلسفي في ازدياد المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي، فالأمراض المعنوية توصِلُ إلى علوم عقلية، كما أن العلوم العقلية تولّد امراضًا قلبية" .
ويتبين مما تقدم أنَّ أداة المعرفة لديه أصلًا هي الروح والقلب، أما العقل فإنه يصلح أن يكون مبتدأ الطريق ثم لا بد له من الخضوع لسلطان الروح.
ويظهر بهذا جَلِيًّا تجانسُ مشربه مع مشرب مولانا الرومي، الذي يقول في ديوانه شمس تبريز:"رأى العقل سوقًا فبدأ بالتجارة، ورأى العشق أسواقًا كثيرة وراء سوق العقل" .... "للعشاق الذين شربوا حتى الثمالة أذواقٌ في داخلهم، ولأرباب العقل المظلمي القلوب إنكارٌ في داخلهم" .... "وبرغم أن العقل صاحب الصدارة وعالـمٌ نحرير، فإن رداءه وعمامته صارا رهنًا عند كأس العشق" ..." العقلُ لا يعرفُ ويغدو حيرانَ أمام مذهب العشق، رغم أنه مُطّلعٌ على جملة المذاهب" .

أ-1 - مراتب هذه المعرفة:

إن أولى مراتب معرفة الله تعالى الذوقية: التوحيدُ الحضوري الشهودي، والأستاذُ يقرر أن التوحيد توحيدان:

- توحيدٌ عامي ... يمكن تداخُلُ الغفلات بل الضلالات في أفكار صاحبه.
- وتوحيدٌ حقيقي يقول: «هو الله وحده له الملك، وله الكون، له كل شيء» ... يثبته له إثباتًا حضوريًا، ولا يمكن تداخل الضلالة والأوهام في هذا التوحيد .
وفي هذا التوحيد تزولُ "ظلماتُ الجهاتِ الستة، وتتنورُ الجهات الآفاقيةُ والأنفسية الستة، وتظهر الأضواءُ الثلاثة، المنعكسة من شمس معرفة سلطان الأزل" .
فإذا تحقق بهذا التوحيد الشهودي، انحصر نظره في وجود «واجب الوجود» ورأى الموجوداتِ كلَّها ظلالًا باهتةً لا تستحق إطلاق صفة الوجود عليها حيال «واجب الوجود» وصغرت وتضاءلت في نظره «الممكنات المخلوقات» ، ولا يكون هذا إلاّ لأخَصِّ الخواصّ عند حالات الاستغراق المطلق، وللمتجردين من الأسباب المادية ومن الذين قد قطعوا علائقهم بما سوى الله من الممكنات والأشياء.
فإذا أفاق من عالم استغراقه ونشوته، أثبتَ الأشياء المخلوقة بإثبات الأزل, لا باعتبار وجوداتها الاستقلالية. وفي هذا يقول الأستاذ:"وبِسرّ أنّ في إسناد كلّ الأشياء إلى الواحد لا يكون الإيجادُ من العدم المطلق بل يكون الإيجادُ عينَ نَقْلِ الموجود العلمي إلى الوجود الخارجي" .

ويقول: "ختَم أقطارَ السموات والأرض بخاتم الواحدية، وضرب على مجموع العالم سِكَّةَ الأحدية" .
ويقول: ".. هو الشمس الأزلي الذي هذه الكائناتُ ظلالُ أنواره وتجلياتُ أسمائه وآثارُ أفعاله, باتفاقِ أهل الشهود" .

ويزيل وهم استقلال وجود الأشياء المخلوقة عن مولاها بقوله:

"لو لم تُسنِد تماثيلَ الشمس المتلألئة في القطرات، إلى تجلّي الشمس يلزم عليك أن تقبل شُمَيْسَةً حقيقيةً وبالأصالة في كل قطرة قابلتها الشمس وفي كل زجاجةٍ أضاءتها الشمسُ، بل في كل ذرةٍ شفافةٍ تشمّسَتْ ..كذلك .. للشمس الأحدية السرمدية على كل حياة ... طرةٌ وسِكةٌ من تجلّي الأحدية" .

وخشيةَ توهُّمِ الحلول أو الاتحاد من كلماته يقول:

"ولا يمكن دخولُ شرارةٍ من كبريت في عينها بالأصالة، بل لو دخلت لانطفأت العين... كذلك ... يجب مظهريةُ كلِّ ذرةٍ لتجلياتِ أسماء شمس الأزل، ولا يمكن, بل يمتنع أن تكون ذرةٌ مصدرًا وظرفًا لمؤثرٍ حقيقي، ولو كان أصغر وأقل من الذرة" .

ويبين الفروق بين الأولياء والفلاسفة في الكلام على هذه الحقائق، وخلاصتها أنَّ :

1 – الأولياء الصوفية توجهوا إلى الله تعالى وحده بكليتهم فلم تعد أسرارهم ترى في الوجود إلا هو، وكانوا غائبين بقلوبهم وأرواحهم عن المادة. أما الفلاسفة الماديون وضعفاء الإيمان, فقد توجهوا بكليتهم إلى المادة وصرفوا كل تفكيرهم ونظرهم فيها، وصاروا لا يرون غيرها فغابوا عن الألوهية، ثم ازدادوا جهالة حين توهموا امتزاج الألوهية بتلك المادة. 
2 – الأولياء الصوفية لم تشاهد أرواحُهم إلا الحقَّ. أما الماديون فإنَّ بواطنهم العالقة في المادة لم تر إلا وحدة المادة الموجودة.
3 - مسلك الأولياءِ الصوفية مسلكٌ ذوقي بينما مسلك الماديين مسلكٌ عقلي.
4 – نظرُ الأولياء إلى المخلوقاتِ تابعٌ لمعرفتهم بالله وفرعٌ ثانويٌّ عنها، أما الماديون فإن نظرهم إلى المخلوقاتِ أصلٌ, وقد حصروا فيها ذلك النظر.
5 – الأولياء يعبدون الله ويستغرقون في محبته، والماديون يعبدون أنفسهم وهواهم؛ فأين الثرى من الثريا.. وأين الضياء الساطع من الظلمة الدامسة.

وبين التعلق بالحقيقة الأزلية وملاحظة المخلوقات الظلالية يتدلى ويترقى الأستاذ، يقول رحمه الله:

" يتدحرج رأسي في آن واحد من الأوج إلى الحضيض، ومن الحضيض إلى الأوج"  ويقول: " سلكت طريقًا غير مسلوك، في برزخ بين العقل والقلب، ودار عقلي من دهشة السقوط والصعود " .

ويفصِّلُ في ترقيه فيقول:

"مكمّليةُ هذه الآثار المشهودة في هذه الكائنات بلا قصور ولا فطور، تشهد بالمشاهدة الحدْسية على مكملية أفعالٍ مستترة خلفها... ومكمّليةُ هذه الأفعال التي هي كالمشهودة ، تشهد بالبداهة على كمال أسماء ذلك الفاعل؛ وكمال تلك الأسماء، يشهد بالضرورة على كمال الصفات؛ إذ الأسماءُ ناشئة من نِسَب الصفات، وكمالُ الصفات يكشف باليقين عن كمال الشؤون الذاتية التي هي مبادئ الصفات القدسية، وكمالُ الشؤون يشهد بحق اليقين على كمال الذات بما يليق بجنابه سبحانه" .
وكأنه في هذا يتوافق مع ما قاله ابن عطاء الله السكندري في حكمه :
" دَلَّ بِوجودِ آثَارِهِ عَلَى وُجُودِ أَسمَائِهِ ، وَبِوُجُودِ أَسمَائِهِ عَلَى ثُبُوتِ أَوْصَافِهِ ، وَبِوُجُودِ أَوْصَافِهِ عَلَى وُجُودِ ذَاتِهِ ، إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَقُومَ الوَصْفُ بِنَفْسِهِ , فَأَهْلُ الجَذْبِ يَكْشِفُ لهمْ عَنْ كَمَالِ ذَاتِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إِلى شُهُودِ صِفَاتِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إِلى التَّعَلُّقِ بِأَسمَائِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إِلى شُهُودِ آثَارِهِ، وَالسَّالِكُونَ عَلَى عَكْسِ هَذَا ، فَنِهَايَةُ السَّالِكِينَ بِدَايَةُ المَجْذُوبِينَ لكِنْ لا بِمَعْنَىً وَاحِدٍ ، فَرُبمَّا التَقَيَا في الطَّرِيق ِ، هَذَا في تَرَقِّيهِ وَهَذا في تَدَلِّيه" ِ.

وعبَّـر الأستاذ عن الترقي والتدلي بعباراتٍ متعددة, منها تقسيمه السَّيْرَ إلى أنفسي وآفاقي: 

"فالسير الأنفسي يبدأ من النفس ويصرف صاحبُ هذا السير نظرَه عن الخارج ويحدّق في القلب مخترقًا أنانيته. ثم ينفذ منها ويفتح في القلب ومن القلب سبيلًا إلى الحقيقة.. ومن هناك ينفذ إلى الآفاق الكونية فيجدها منوَّرةً بنور قلبه، فيصل سريعًا إلى أن الحقيقة التي شاهدها في دائرة النفس يراها بمقياس أكبر في الآفاق، وأغلب طرق المجاهدة الخفية يسير وفق هذه السبيل.

وأهم أسس هذا السلوك هو كسْرُ شوكة الأنانية وتحطيمها، وترك الهوى وإماتة النفس.

أما النهج الثاني فيبدأ من الآفاق ويشاهد صاحبُ هذا النهج تجلياتِ أسماء الله الحسنى وصفاتهِ الجليلة في مظاهر تلك الدائرة الآفاقية الكونية الواسعة, ثم ينفذ إلى دائرة النفس فيرى أنوار تلك التجليات بمقاييس مصغَّرةٍ في آفاق كونه القلبي، فيفتح في هذا القلب أقربَ طريق إليه تعالى، ويشاهد أن القلب حقًّا مرآةُ الصمد فيصل إلى مقصوده ومنتهى أمله" .
ويقول الأستاذ النورسي مفصِّلًا في وجه آخر من وجوه التدلي والترقي: " اعلم أن محبة ما سواه تعالى على وجهين: وجه ينـزل من علو؛ أي يحب الله فبحبهِ يُحب من يحبهُ الله، فهذه المحبة لا تُنقِص من محبة الله بل تزيدها.

والوجه الثاني: يعرج من سُفْل؛ أي يحبّ الوسائلَ فيتدرج في محبتها ليتوسل إلى محبة الله، فهذه المحبة تتفرق ، وقد تصادف وسيلة قوية فتقطع عليها الطريق فتهلكها، وإن وصلت وصلت بنقصان" 

أ-1 - التعبير عن هذه المعرفة:

يقِرُّ الأستاذ بأنه قد جرى عليه ما جرى على كُمَّلِ الصوفية الذين هجمت عليهم الوارداتُ المعبِّرة عن الحقائق من غير إرادةٍ منهم، فيقول في مثنويه العربي:"وكذا لا تظنن أني باختياري أشكَلْتُ عليك عبارةَ هذه الرسالة، إذ هذه الرسالة مكالمات فجائية مع نفسي في وقت مدهش" .وقد صرّح بمثل هذا الشيخ ابن عربي، ومولانا جلال الدين الرومي، ومن كلمات الرومي قوله:
"والله ، إنني لا أميل إلى الشعر .. صار مفروضًا علي" ....
"كل شعرة مني صارت بفضل حبك بيتًا وغزَلًا " ....
" إذا لم أنشد الغزَل ، فإنه يشق فمي" 

وبعد هذا، فإننا نجد الأستاذ ربما عبـَّر عن حقيقة من الحقائق التي يشهدها بالرمز أوالإشارة، فمن كان من الراسخين في المعرفة يدرك إشارة رمزه، ومن لم يكن أهلًا لذلك فالرمز يكفيه مؤونة سوءِ فهمِ الجاهل.
يقول الأستاذ: "وكثيرًا ما أضع كلمةً على ما لا يمكن لي التعبير عنه، للإخطار والتذكير، لا للدلالة" .ويقول: "إنك ترى .. من المسائل والحقائق الدقيقة التي من شأنها أن يكون كلٌّ منها موضوعًا لرسالة..قد ذكرتْ ضمن ألفاظٍ ضيقةٍ لا تسعها، وفي سطورٍ معدودةٍ لا تستوعبها.." 
وهو "يشير إلى ترقياته الفكرية وفيوضاته القلبية بأدق العبارات وأقصر الجمل التي لا يفهمها إلا هوl، لذا فقد لا يدركُ قسمًا منها – بعد جهد جهيد – إلا الراسخون في العلم" ، ثم كأنه يفتح الطريق للراسخين في العلم ليفصِّلوا في بعض ما فهموه من رموزه بقوله: "فلوكانت تلك الخواطر القلبية مبيَّنةً بعباراتٍ سهلةٍ مفصَّلةٍ وموضَّحةٍ بإيضاح يقرّبها إلى الأفهام لكان ذلك«المثنويُّ العربي» مُعِينًا تامًّا لرسائل النور" .

أ-2 – حقيقة معرفة محمد رسول الله:

يشاهد الأستاذ نور النبي غامرًا للكون، ويرى خَلْقَ الأفلاك من أجل محمد ، وهو لا يكتفي بالنظر إلى مسجده  الكبير الذي مساحته الأرض، ومحرابه مكة ومنبره المدينة، بل يراه في كل تسبيحة سبّحها الكونُ فكانت بلسان محمدها، ثم إنه  في مشهد الأستاذ "كالشمس يدل على ذاته بذاته" .

وهو  المرآة الصفائية للأسماء الحسنى، يقول الأستاذ: "ولا يمكن حُسْنٌ لا نهاية له، بلا طلبِ ذي الحسن، ومحبتِه لمشاهدة محاسن جماله ولطائف حسنه في مرآة. وبلا إرادته لإشهاد أنظار المستحسنين عليه وإراءته لهم بواسطة عبدٍ حبيب يتحبب إليه ورسولٍ يحببه إلى الناس, أي هو بعبوديته مرآةٌ لشهود ذي الجمال" . 
ويقول: "كذلك هو مظهرٌ ومرآة لصفة الربوبية" .
ويرى الأستاذ أننا حين لا نستضيء بنور رسول الله صلى الله عليه وسلم "نرى في الكائنات مأتمًا عموميًّا،..... ونرى جامداتها جنائز دهاشة،..... ونرى الإنسان قد صار بعجزه...... أدنى وأخسر من جميع الحيوانات" . ويقول: :فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، إلى الكائنات كيف تراها؟ انظر! قد تبدل شكل العالم، فتحوّل بيتُ المأتم العموميّ مسجدَ الذكر والفكر ومجلسَ الجَذْبة والشكر... وتحول الأعداء الأجانب من الموجودات أحبابًا وإخوانًا...، وتحوّل ذوو الحياة منها، الأيتام الباكون المشتكون، ذاكرين في تسبيحاتهم".

ويرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يدير حلقة الذكر الكونية الكبرى، فيقول:"إذ بينما تراه قال : "لا إله إلا الله" ... فإذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفَّين النورانيين( أي شموس البشر ونجومِه القاعدين في دائرة الذكر ) عينَ تلك الكلمة فيكررونها". 

ويراه صل ىالله عليه وسلم كيف يهيِّجُ ببكائه بكاء كل الكائنات، ويقول:"انظر إلى طَوْره في طُرُز تضرعاته كيف يتضرع بافتقار عظيم، في اشتياق شديد، وبحزن عميق في محبوبيّة حزينة! بحيث يهيج بكاء الكائنات فيبكيها فيشركُها في دعائه.. ثم انظر كيف يتضرع باستمداد مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودُّدٍ حزين، بحيث يُسْمِع العرشَ والسمواتِ، ويهيج وجْدها" .
ويتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: "اللهم بحق القرآن وبحق من أنزل عليه القرآن" . 

أ-3 – حقيقة معرفة الكائنات:

يرى الأستاذ أن العارفين وحدهم يشهدون حُسْنَ الكائنات؛ لأنها مرايا أسماء الأزل، ويقول: "أكثر الغافلين لا يدرك حُسْنَ الحادثات" .
ويتحدث عن : "«الجمال الحزين» في خد الكائنات المنعكس المرمِز إلى وجوب وجود ذي الجمال المجرد" .
ويتحدث عنـ " ما يُرى في قلبها من «العشق الصادق» المنادي على المحبوب الحقيقي، وما يُحَسّ به في صدرها من «الانجذاب والجذبة» الملوِّحَيْنِ بالحقيقة الجاذبة التي تنجذب إليها الأسرار" .

أ-4 – حقيقة معرفةِ الإنسان:

معرفة الإنسانِ هي آخِرُ المعارف في منازل التدلّي، وللأستاذ كلامٌ عليها، فهو يرى أنَّ الإنسانَ في تكوينه مزوَّدٌ بوجهين، وجهٍ ناظرٍ إلى الحق سبحانه له قيمة عالية غالية، ووجهٍ ناظر إلى الخلق لا قيمة له لفنائه وزواله.
ويرى الإنسانَ ثمرةً في شجرة الكون فيقول: " الإنسان لكونه أجمعَ وأبدعَ المصنوعات فهو الثمرة الشعورية لشجرة الخِلْقة" .
ويقول :"فالبشر ثمرٌ لهذه الكائنات فهو المقصود الأظهرُ لخالق الموجودات" 
ويقول: "انظر إلى الإنسان في هذه الكائنات حتى تشاهد بالعيان دائرتين متقابلتين، ولوحتين متناظرتين: فأما إحدى الدائرتين ،فدائرة ربوبية محتشمة منتظمة في غاية الاحتشام والانتظام. وأما أحد اللوحين فلوحُ صَنْعةٍ مُصَنَّعٍ مرصَّع في غاية الإتقان والاتزان. 

وأما الدائرة الأخرى فهي دائرةُ عبودية منوّرة مزهرة في غاية الانقياد والاستقامة. وأما اللوح الآخر، فهو لوح تفكر واستحسان في غاية الوسعة، وصحيفة تشكر وإيمان في غاية الجمع" . 

أ-5 – مانع المعرفة:

بيَّن الأستاذُ رحمه الله أنَّ مانعَ المعرفة هو وجود النفس، فقال:" "أي واه" وا أسفًا ! إنَّ وجود النفسِ عمًى في عينها، بل عينُ عُميها، ولو بقي من الوجود مقدار جناح الذباب يصير حجابًا يمنع رؤيتَها شمسَ الحقيقة, فقد شاهدتُ أن النفس بسبب الوجود تَرى, على صخرة صغيرة في قلعة عظيمة مرصوصة, من البراهين القاطعة ضعفًا ورخاوة فتنكر وجود القلعة بتمامها" .... وجهلها ناشئ من رؤيتها لوجودها .

ب - تصوف الأستاذ في طرائقه:

ب-1- الإرادة والنية مُبتدأ كل طريق:

لا يصحّ للإنسان سَيرٌ إلى الحقائق عبر الطرائق إلا بعد إحكام النية، ومما يروى عن الجنيد رحمه الله تعالى قوله:" أكثر العوائق والحوائل والموانع من فساد الابتداء ؛ فالمريد في أول سلوك الطريق يحتاج إلى إحكام النية ، وإحكامُ النية تنـزيهها من دواعي الهوى ... حتى يكون خروجه خالصًا لله تعالى " .
وفي هذا يقول الأستاذ: "نعم , إنَّ النية ، إكسيرٌ عجيب تَقْلِب بخاصيتها العاداتِ الترابية والحركاتِ الرملية إلى جوهر العبادة" .
ويقول أيضًا: " فالنية روح، وروحها الإخلاص، فلا خلاص إلا بالإخلاص، ويمكن بالنية... عملُ كثيرٍ في زمانٍ قليل" .

والأصل في تصحيح الإرادة وتعيين النية قولُه تعالى:{ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون}.

ب-2- مذهبُ الأستاذ في الطريقة القيامُ بحق البدن، مع الروح:

توهم بعض المشتغلين بالطرائق أنها تدعوهم إلى إهمال البدن كَسْرًا للنفس، وهو غير مذهب المحققين، فالإمام الشاذلي رحمه الله يقول في وصاياه: " لا تسرف بترك الدنيا فتغشاك ظلمتُها وتنحلّ أعضاؤك فترجع لمعانقتها بعد الخروج منها بالهمة أو بالفكر أو بالإرادة أوبالحركة .... برِّدِ الماءَ فإنك إذا شربتَ الماء الساخن فقلتَ الحمد لله قلتها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد وقلت الحمد لله استجاب كل عضو فيك بالحمد لله" .

وفي هذا يقول الأستاذ:" إني رأيت نفسي مغرورة بمحاسنها, فقلت: لا تملكين شيئًا. فقالت: فإذًا لا أهتم بما ليس لي من البدن. فقلتُ: لابد أن لا تكوني أقل من الذباب، فإن شئتِ شاهدًا فانظري إلى هذا الذباب كيف ينظِّفُ جَناحيه برجليه ويمسح عينيه ورأسه بيديه, سبحان من ألهمه هذا وصيّره أستاذًا لي وأفحم به نفسي" .وهو الموافق للسنة فيما روي عن النبي  وأصحابه. 

ب-3- مذهبُ الأستاذ في الطريقة استعمالُ العقل مع القلب:

يقول الأستاذ: مخبرًا عن سَيْره: " وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدها-كأكثر أهل الطريقة" ... " أراد أن يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة المتوجهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب" .
وهكذا نجد كلامًا استدلاليًّا كثيرًا يعدّه الأستاذ جزءًا من الطريقة، وهو بذلك يتشابه مع الإمام الغزالي رحمه الله.

ومن نماذج خطابه العقلي الاستدلالي في الطريقة ما يأتي:

- " يا أيها الغافلُ المنغمس في الأسباب! إنّ الأسبابَ حجابُ تصرُّفِ القدرة؛ إذ العزة والعظمة تقتضيان الحجابَ، لكن المتصرِّف الفعال هو القدرةُ الصمدانية" .
- " هذه الوسائط لإظهار عزة القدرة وحشمة الربوبية " .
- "وضِعَت الأسباب لتتوجه الشكاوي إليها" .
- "التوحيد والجلال يردّانِ أيدي الأسباب عن التأثير الحقيقي" .
- "التعلّقُ بالأسباب سببُ الذلة والإهانة" .
- "إنك موزون بين موازين...فَتَنَبَّهْ وأقم الوزن بالقسط.. والحال أنك تلهو كمجنون بين مجانين" .

ويحاور المبتلى بأحد الأمراض الأربعة المضلَّة، فينصحه بعلاج مرض اليأس بـ {لاتقنطوا من رحمة الله} وعلاجِ مرض العُجْب بتذكُّر عدم مالكية نفسه لشيءٍ ، وعلاجِ الغرور بالنظر الواعي إلى أعمال الأسلاف وأمجادهم، وعلاجِ سوء الظن بردِّ العيبِ إلى نفس المسيء ظنه .

ب-4- الاتصال بالطرائق وشيوخها:

اتصل الأستاذ من حيث الإسنادُ بالطريقة النقشبندية, وهي طريقةٌ تربي أبناءها على الأخلاق والآداب، لكنَّ انجذابه الروحي كان إلى أستاذ الطريقة القادرية الشيخ الكبير الكيلاني المتوفى سنة (561هـ)، ولعلَّ ذلك يرجع إلى الأمور الآتية:

توجيه الشيخ الكيلاني - فيما نقله عنه تلامذته – إلى المعرفة والحقيقة، وهو ما يهواه النورسي الشابُّ، الراغب في الانطلاق من مراسم الآداب الظاهرة إلى فضاء المعارف الجاذبة. وقد تكون الطبيعة الجبلية الصفائية الموصولة بنقاء السماء التي يعيش فيها ساعدت في ذلك.

انجذابُ الشابّ النورسي الروحيُّ الخاص للشيخ الكيلاني.

شدةُ الشيخ الكيلاني في الحق، وعدَمُ مبالاته بالخلق، وبغضه الشديد لتملق الناس، وهي مفرداتٌ تروق للنورسي الشابّ وتستهويه، وتتناسب مع شخصيته.

يقول الأستاذ: "وعلى الرغم من أنني منتسب إلى الطريقة النقشبندية بثلاث جهات فإن محبة الطريقة القادرية ومشْرَبِـها يجري فيّ حُكْمُه دون اختيار مني، كنت ... أقول: أيها الشيخ الكيلاني, أقرأ لك سورة الفاتحة, جُدْ لي ما ضيعته من جوز مثلًا أو أي شئ ... وإنه لأمرٌ عجيب, فوالله لقد أمدني الشيخ بدعائه وهمته ألف مرة، ولهذا ما قرأت من أوراد وأذكار طوال حياتي إلاّ وأهديتها أولًا إلى حضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ثم إلى الشيخ الكيلاني " .
وبعد تقدّمه في السن كان سعيد النورسي الجديد يقول:"وأصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه أستاذًا لي وطبيبًا ومرشدًا بكتابه فتوح الغيب، وصار الإمام الرباني رضي الله عنه كذلك بمثابة أستاذ أنيس ورؤوف شفيق بكتابه "مكتوبات", فأصبحت راضيًا كلِّيًّا وممتنًّا من دخولي المشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الحضارة البرّاقة ومتعها الزائفة، ومن انسلالي من الحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرت الله على ذلك كثيرًا" .

وكانَ الأستاذُ كثيرَ الرؤيا للنبي  . 

وإنَّ حديثه عن نسَبه وأنه لا يعدّ نفسه من آل البيت, لأن الأنساب مختلطة في زمانه, قد يشير إلى شيءٍ يجول في نفسه أو مكاشفةٍ روحانية حصلت له, أفادته أنه من آل بيت رسول الله  ، يقول الأستاذ: "إنني لا أستطيع أن أعدّ نفسي من آل البيت حيث الأنساب مختلطة في هذا الزمان....رغم أنني بمثابة ابن معنويٍّ لسيدنا علي كرم الله وجهه وتلقيت درس الحقيقة منه" .
ويقول السيد "حسن فهمي باش أوغلو" بعد استغرابه مما رآه في بديع الزمان من سعة العلوم وعجيب أجوبته على المسائل: "اطمأننتُ تمامًا وعلمتُ علم اليقين بأن علمه ليس كسبيًّا كعلمنا، بل هو علم لدني" .

وقد بحث الإمام الغزالي مسألة التحصيل من غير معلِّم، ثم أجابَ عن المسألة بقوله:"اعلم أن الأستاذ فاتحٌ ومسهِّلٌ والتحصيلُ معه أسهل وأروح، والله تعالى بفضله يمتن على من يشاء من عباده فيكون هو معلّمهم " .

وقال أيضًا :" اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية, وإنما تحصل في القلب في بعض الأحوال, تختلف الحال في حصولها: فتارة تهجم على القلب كأنه ألقي فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم، فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلةِ الدليل يسمّى إلهامًا، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارًا واستبصارًا" 

ويقول الأمير عبد القادر الجزائري:" تنفع أكملية الشيخ من حيث الدلالة الموصلة إلى المقصود, وإلا فالشيخُ لا يعطي المريد إلا ما أعطاه له استعداده, واستعداده منطوٍ فيه وفي أعماله" .
على أنَّ ما وُفِّقَ إليه الأستاذُ النورسي رحمه الله من الاختصاص, لا ينبغي أن يصرف المتعلم عن المربي إن وجد. يقول الشعراني رحمه الله:" كانت صور مجاهداتي لنفسي من غير شيخٍ, أنني كنتُ أطالع كتب القوم كرسالة القشيري وعوارف المعارف والقوت لأبي طالب المكي والإحياء للغزالي وأعملُ بما ينقدح لي من طريق الفهم, ثم بعد مدة يبدو لي خلاف ذلك فأترك الأمر الأول وأعمل بالثاني, وهكذا فكنت كالذي يدخل دربًا لا يدري هل ينفذ أم لا, فإن رآه نافذًا خرج منه وإلا رجع, ولو أنه اجتمع بمن يعرِّفه أمْرَ الدرب قبل دخوله لكان بيّن له أمْرَه وأراحه من التعب, فهذا مثال من لا شيخ له" .
ويقول الشيخ أحمد زروق في قواعده:" أخْذُ العِلْمِ والعمل عن المشايخ أتمُّ من أخذه دونهم" .

وينبغي أن لا يُنسى أثر والدة الأستاذ (نورية) في تربية الأستاذ، وهو الذي يقول:

" أقسم بالله, إن أرسخ دَرْسٍ أخذتُه، وكأنه يتجدد عليّ، إنما هو تلقينات والدتي رحمها الله ودروسها المعنوية، حتى استقرت في أعماق فطرتي وأصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين" .

ب-5- قواعد الطريقة وأصولها:

يذكر الأستاذ قواعد الطريقة، وخلاصتها الأمور الآتية:

1- اتباعُ السنة النبوية المطهرة هو أجملُ وألمع طريق موصلة إلى مرتبة الولاية من بين جميع الطرق.... واتباع السنة المطهرة هو طريق الولاية الكبرى، وهو طريق ورثة النبوة من الصحابة الكرام والسلف الصالح.
2- الإخلاص هو أهم أساس لجميع طرق الولاية وسبل الطريقة؛ لأن الإخلاص هو الطريق الوحيد للخلاص من الشرك الخفي.... 
3 - المحبة تشكِّل أمضى قوة في تلك الطرق....والذين يتوجهون بقلوبهم إلى معرفة الله عن طريق المحبة لا يصغون إلى الاعتراضات ويجاوزون سريعًا العقبات والشبهات، وينقذون أنفسهم بسهولة، ويحصنونها من الظنون والأوهام، حتى لو اجتمع عليهم آلاف شياطين الأرض.
4- الدنيا هي دار العمل ، وليست دارًا للمكافأة والجزاء... ويجب عدم المطالبة بثمرات الأعمال الأخروية وجزائها في هذه الدنيا، ولو أعطيت يجب أخذها وقبولها من يد الرب سبحانه بفرح مشوب بالحزن، وسرور ممزوج بالأسى وليس بفرح وسرور خالصين.....

ب-6- أوصاف السالك في الطريقة:


على سالك الطريقة أن يسلك طريق العجز، والفقر، والشفقة، والتفكر. 
فوصف العجز كالعشق طريق موصل إلى الله؛ إذ هو يوصل إلى المحبوبية بطريق العبودية ..ومنبعه من القرآن الكريم قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}.
قال صاحبُ الحكم العطائية: "تَحَقَّقْ بِأَوْصَافِكَ يُمِدَّكَ بِأَوْصَافِهِ ، تَحَقَّقْ بِذُلِّكَ يُمِدَّكَ بِعِزِّهِ، تَحَقَّقْ بِعَجْزِكَ يُمِدَّكَ بِقُدْرَتِهِ ، تَحَقَّقْ بِضَعْفِكَ يُمِدَّكَ بحَوْلِهِ وَقُوَّتِه " . 
ووصف الفقر يوصل إلى اسم الله «الرحمن».ومنبعه من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} ، أي أنساهم واقع أنفسهم أنها محضُ فقرٍ وعجزٍ فتوهموا فيها الغنى والقدرة.
وقال صاحبُ الحكم العطائية أيضًا: "إِنْ أَرَدْتَ بَسْطَ المَوَاهِبِ عَلَيْكَ ، صَحِّحِ الفَقْرَ وَالفَاقَةَ لَدَيِكَ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَآءِ وَالمَسَاكِينِ}.
ووصف الشفقة كالعشق موصل إلى الله إلا أنه أنفذ منه في السَّيْر وأوسع منه مدى، إذ هو يوصل إلى اسم الله «الرحيم».جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".ومنبعه من القرآن الكريم قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} ، فإن كنتَ شفيقًا فهي حسنة من الله تعالى عليك توفيقًا في الابتداء وإثابةً في الانتهاء، وإن كنتَ قاسيَ القلب فهي سيئةٌ مصدرها النفس الأمارة، ولا تعود عليك إلا بالعقاب.

وقد أورد الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من كتاب الإيمان بابًا سماه: "بَاب دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ وَبُكَائِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ:

" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام : {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي" وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : "يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ".

ووصف التفكر أيضًا كالعشق إلا أنه أغنى منه وأسطع نورًا وارحم سبيلًا، إذ هو يوصل السالك إلى اسم الله «الحكيم».ومنبعه من القرآن الكريم قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} ، فمن تفكر في عدمية الأشياء وزوالها، يقوده ذلك إلى معرفة الحكمة الكبرى من وجوده ووجود الكائنات من حوله، ويجذبه إلى الحقيقة الواحدة الأزلية الأبدية. 

ب-7- أوراد الطريقة وأفعالها:

ب-7- 1ً- أوراد الطريقة:

أعظم أوراد الطريقة وأفعالها عند الأستاذ فعل الفرائض والسنن، وتأتي بعدها أنواع القرباتِ المتعددة، وهو بهذا متوافق مع أكابر أهل الحقيقة كالرفاعي والشاذلي والإمام الرباني والشيخ الكيلاني.
يقول الكيلاني رحمه الله: " أدِّ الأمر، وانتهِ عن النهي، واصبر على هذه الآفات، وتقرب بالنوافل، وقد سُمّيتَ مستيقظًا " .
ويقول الأستاذ النورسي: "أهل الطريقة وأصحاب الحقيقة كلما تقدموا في مسلكهم وارتقوا في معارجهم وجدوا أنفسهم منجذبين أكثر إلى الحقائق الشرعية" .
ويعيب على بعض المبتدئين سوء فهمهم حين يكون اهتمامهم وانشغال قلوبهم بآداب الطريقة فائقًا اهتمامَهم بأعمال الشريعة الواجبة والمسنونة، فيقول:"... فإن الأعمال الشرعية المحكمة وآداب السنة السنية، تنحسر حتى تأخذ الدرجة الثانية من الاهتمام لدى السالك، وتصبح صورية شكلية بانشغال القلب بالتوجه إلى آداب الطريقة ورسومها، أي إن المرء عندئذ يفكر بحلقة الذكر أكثر من تفكيره بالصلاة، وينجذب إلى أوراده أكثر من انجذابه إلى الفرائض، ويُلزم نفسَه بتجنب مخالفة آداب الطريقة أكثر من التزامه بتجنب الكبائر، والحال أن أداء فريضة واحدة التزامًا بالأوامر الشرعية لا يمكن أن توازيها أوراد الطريقة، أو تحل محلها. فآداب الطريقة وأوراد التصوف وما يحصل للسالك منهما من أذواق ينبغي أن تكون مدخلًا لأذواق أحلى وأعلى وأسمى، يحصل عليها هذا السالك من أداء الفرائض والسنن" .

وبعدها نجد الأستاذ لا يهمل ما زاد على ذلك من الأوراد، بل ويبين منافعه وفوائده ودقائق معانيه. وانظر إليه وهو يتحدث عن خواصِّ بعض الأذكار وتباين الحاجة إليها مع غيرها فيقول:"كما أن الحاجاتِ الجسمانية مختلفةٌ في الأوقات فإلى بعضٍ (في كل آن كالهواء) وإلى قسمٍ (في كل وقتِ حرارة المعدة كالماء) وإلى صنفٍ (في كل يومٍ كالغذاء) وإلى نوعٍ (في كل أسبوعٍ كالضياء) وإلى طائفة في (كل شهرٍ .. أو سنة كالدواء)...كذلك إن الحاجات المعنوية الإنسانية أيضًا مختلفة الأوقات: فإلى قسم (في كل آن كـ "هو" ، و "الله" ) وإلى قسم (في كل وقت كـ بسم الله) وإلى قسم في كل ساعة كـ (لا إله إلا الله) وهكذا فقس. 

فتكرار الآيات والكلمات للدلالة على تكرار الاحتياج، وللإشارة إلى شدة الاحتياج إليها.ولتنبيه عِرْق الاحتياج وإيقاظه، (وللتشويق) على الاحتياج، ولتحريك اشتهاء الاحتياج على تلك الأغذية المعنوية" .

ويتحدث عن كلٍّ من الذكر الخفي والجهري وفوائد كلٍّ منهما بقوله:

" اعلم ! كما أن الحبة من بذور الحبوبات ونوى الثمرات إذا ثقبت في قلبها، لا تتكبر بالتنبت. كذلك حبة «أنا» إذا ثقبت بشعاع ذكر: الله...الله...لا تتعاظم تلك الأنانيةُ متفرعةً بالانتعاش ومتفرعنةً بالغفلة، ومستحصنةً ومستندةً بآثار النوع، ومبارزةً بالعصيان لجبار السموات والأرض. والأولياء النقشبنديون موفَّقون لفتح حبة القلب وكشف طريق قصير بثَقْب جبل«أنا» وكسْرِ رأس النفس بمثقاب الذكر الخفي. كما أنك بالذكر الجهري تخرب طاغوت الطبيعة".

ويبين سر تكرير الأذكار بقوله:

" اعلم أن تكرار كلمة التوحيد، لتجريد القلب من أنواع العلاقات، وطبقات المعبودات الباطلة، ولأن في الذاكر أنواعًا من لطائف وطبقات من حواس، لكلِّ توحيدٌ وتجريدٌ من الشرك المناسب له" .

ويدعو إلى كثرة الصلاة على النبي  بقوله:

"اعلم أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كإجابة دعوة المنعِم الذي أفاض فيضه، وبسطَ مائدة إنعامه على مقام صاحب المعراج، وإذا وصف المصلّي النبيَّ بصفةٍ، لابد أن يتأمل في مُناط تلك الصفة ليشتاق المصلي لتصلية جديدة" .

ويذكر فائدة الدعاء ويبين حاجة السالك إليه بقوله:

" اعلم أن الدعاء, لاسيما من المضطرين, له تأثير عظيم يسخَّر بسببه أقوى الأشياء وأعظمها لأضعف الأشياء وأصغرها, كسكوت غضب البحر لأجل معصوم على لوح منكسر دعا بقلب منكسر فيدل على أن المجيب يحكم على الكل فهو رب الكل" . 

ب-7- 2ً- أفعال الطريقة:

وقد سلك الأستاذ مسلك مجاهدة النفس، وقال يصف سَيْره: "واضطرته نفسه الأمارة بشكوكها وشبهاتها إلى المجاهدة المعنوية والعلمية " . 
وقال ناصحًا: "كن من شئت، فلا نفسك أطغى وأعصى من نفسي، ولا شيطانك أغوى وأشقى من شيطاني" . 
وقال: "ولا تخف من تمرد النفس؛ لأن نفسي الأمارة المتمردة المتجبرة انقادت.....بل شيطاني الرجيم أُفحم وانخنس" . 
وكان الأستاذ مع مكانته المرموقة في المجتمع لا يبالي بأمر مخالفة ثيابه الجبلية لثياب الناس في إستانبول وأنقرة، وكان يقول:" إنني أعلن بملابسي المخالفة للناس: استغنائي عن المقاصد الدنيوية... واعتذاري عن عدم مراعـاتي للعادات الجارية في البلاد.. ومخالفة أحوالي وأطواري عن الناس.. وفطرية إنسانيتي بموافقة الظاهر والباطن" .
ومن مجاهداته انسحابُه إلى تل يوشع ودخولُه مسلك التفكر والتأمل.. حتى اكتمل سعيدًا جديدًا في طريق قرآني.

وكان يذهبُ في شهر رمضان إلى جامع بايزيد في إستانبول؛ ليستمع إلى القرآن الكريم من الحفاظ المخلصين، فسمع منهم قوله تعالى: {كُلُّ نَفسِ ذائِقةُ الموْت} فنفذ هذا الإعلان المدوّي إلى أعماق أعماق قلبه، وكان ينظر إلى المرآة، فيرى أنَّ الشعرات البيضاء تخاطبه قائلة: انتبه، وعرف حينها سرًا من أسرار رابطة الموت التي يزاولها أهل الطرق الصوفية، ورأى أن رياءً ثقيلًا، وأثَرة باردة وغفلة، تكمن تحت الستار المزركش للسمعة والصيت، التي هي المثل الأعلى لأرباب الشهرة وعشاقها، وصار يداوم على الذهاب إلى مكانٍ مرتفعٍ في مقبرة إستانبول، فبدا له أهالي إستانبول جنائز يمشون، وباتت المقبرة عنده مؤنسة أكثر من إستانبول نفسها، وأصبحت الخلوة والعزلة عنده أكثر لطافة من المعاشرة والمؤانسة؛ مما حدا به أن يجد مكانًا للعزلة في صارى ير على البسفور .

وتبدلت نشوة سعيد القديم وابتساماته إلى نحيب سعيد الجديد وبكائه...

ولا يُنسى كم قضى الأستاذ أوقاتًا في المنفى في بارلا وغيرها أو السجون وكانت خلواتٍ بالنسبة له أيضًا.
وكان يخاطب نفسه قائلًا: "فيا أيتها النفس! تفرغي من هذه الدعوى الباطلة، وسلِّمي المُلْكَ إلى مالكه، وكوني أمينة على هذه الأمانة" . 
"اعلمي يا أيتها النفس الأمارة ! أن لك دنيا هي قصر، واسعة مبنية بآمالك وتعلقاتك واحتياجاتك إلى الأكوان، فالحجر الأساس في ذلك القصر والأصل الأول والعمود الفريد، هو وجودك وحياتك، مع أن هذا العمود مدوِّد، ... والأساسَ فاسدٌ ضعيف مهيَّأٌ للخراب في كل آن، فليس هذا الجسم بأبديٍّ ولا من حديد ولا من حجر، بل من لحم ودم مهيأ لأن يتفرق في كل آن، فبانحلاله تنفلق عنك هذه الدنيا بحذافيرها، فتخرب على رأسك دنياك، فانظري إلى الماضي إذ هو قبر واسع خَرِب على رأس كل ميت كان مثلك في دنياه، والمستقبل أيضًا قبر واسع يكون مثله، وأنت الآن بين ضغطة القبرين" .
وكان يقول لنفسه: " اعلم أيها السعيد الشقي! ما هذا الغرور والغفلة والاستغناء؟ ألا ترى أن ليس لك من الاختيار إلا شعرة، وليس من الاقتدار إلا ذرة، وليس من هذه الحياة إلا شعلة تنطفئ، وليس من العمر إلا قليل مثل دقيقة تنقضي، وليس من الشعور إلا لمعة تزول، وليس من الزمان إلا أن يسيل، وليس من المكان إلا مقدار القبر!.... ولك من العجز ما لا يُحدّ، ومن الاحتياج ما لا يتناهى، ومن الفقر مالا يحصى، ومن الآمال ما لا غاية لها ...ومن كان بهذه الحالة من العجز، وفي هذه الدرجة من الحاجة ، هل يتوكل على ما في يده ويعتمد على نفسه... أو يتوكل على الله الرحمن الرحيم" .

وكان يرى العلة كل العلة في طلب الصوفي للكرامة:

" الذين يرغبون في سلوك طريق الولاية والطريقة إن كانوا يرغبون في تناول بعض الثمرات الجانبية للولاية، أمثال اللذات المعنوية أو الكرامات، ويتوجهون إليها ويطلبونها ويلتذون بها.. فإن هذا يعني رغبتهم في تناول تلك الثمرات في هذه الحياة الفانية، وهي ـ إذا حصلت لهم ـ ثمراتٌ فانية على أي حال كان. وبذلك يفقدون الإخلاص في أعمالهم).
وكان يرى الشهرة سبب موت القلب وينصح قائلًا : لا تطلبها لئلا تصير عبْدَ الناس, فإن أُعطيتَها فقل: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

ب-8- انتصار الأستاذ للطريقة ودفاعه عن أبنائها:

كان الأستاذ يقرر أنَّ " ما بلَّغته الرسالةُ من الحقائق الإيمانية تراها «الوِلايةُ » بدرجة «عين اليقين» بشهود قلبيّ وتذوق روحاني فتصدّقها، وتصديقها هذا حجة قاطعة لأحقية الرسالة .... الوِلايةُ حجّةُ الرسالة، والطريقة برهان الشريعة...الولاية والطريقة سُِّر كمال الإسلام، ومحور أنواره، وهما معْدِنُ سمو الإنسانية ورقيّها" 
وكان يقول: "تحت عناوين «التصوف والطريقة، والولاية، والسير والسلوك» حقيقة روحانية نورانية مقدسة، طافحة باللذة والنشوة، أعلن عنها كثير من علماء أرباب الكشف والأذواق".
ويقول: "«الطريقة» هي في مقدمة الوسائل الإيمانية التي توسع من دائرة الأخوة الإسلامية بين المسلمين وتبسط لواء رابطتها المقدسة في أرجاء العالم الإسلامي" .
ويقول: "نعم، نرى كل عصر نمر عليه قد انفتحت أزاهيره بشمس عصر السعادة وأثمر كلُّ عصر من أمثال أبي حنيفة، والشافعي، وأبي يزيد البسطامي، والجنيد البغدادي، والشيخ عبد القادر الكيلاني والإمام الغزالي، ومحيي الدين بن عربي، وأبي الحسن الشاذلي، والشاه النقشبند، والإمام الرباني ونظرائهم ألوفَ ثمرات منوَّرات من فيض هداية ذلك الشخص النوراني".

وكان الأستاذ يذكر فضل أهل الطريقة وثباتهم في أوقاتِ المحنة الدينية فيقول: 

"ولا أدلُّ على ذلك من احتفاظ أهل الطريقة بإيمانهم أثناء هجوم أهل الضلالة، حتى إن منتسبًا اعتياديًا مخلصًا من أهل الطريقة يحافظ على نفسه أكثر من أي مدعٍ كان للعلم، إذ ينقذ إيمانه بما حصل عليه من الذوق الروحي في الطريقة وبما يحمله من حب تجاه الأولياء" .
ويفسر ثباتهم : بالقوة الإيمانية، والمحبة الروحانية والأشواق المتفجرة من المعرفة الإلهية وهم يرددون «الله...الله» في الزوايا والتكايا المتممة لرسالة الجوامع والمساجد والرافدة لهما بجداول الإيمان.
ويقول: "يجب أن لا ننسى فضل أهل الطرق في المحافظة على مركز الخلافة الإسلامية «إستانبول» طوال خمسمائة وخمسين سنة" .

ويخاطب الماديين الزاعمين نصرة الوطن بقوله:

(فيا أدعياء الحمية ويا سماسرة القومية المزيفين! ألا تقولون أية سيئة من سيئات الطريقة تفسد هذه الحسنة العظيمة في حياتكم الاجتماعية) .
وكان يقارن بين مجالس الصوفية المشرقة، وتجمعاتِ الغرب الشهوانية الغريزية المحرقة ويقول:" فإن شئت فاذهب بخيالك إلى مجلس "سيدا" قدّس سره في قرية نورشين.. وما أظهرت من المدنية الإسلامية بصحبته القدسية، تَرَ فيها ملوكًا في زي الفقراء وملائكة في زي الأنـاسي. ثم اذهب إلى باريس وادخل في لجنة الأعاظم تَرَ فيها عقارب، تلبسوا بلباس الأناسي، وعفاريت تصوروا بصور الآدميين " .
وكان الأستاذ يبين أنَّ قسمًا ضلَّ فانحاز إلى إنكار أهمية الولاية والطريقة، "فحَرَموا الآخرين من أنوار هم محرومون منها" .
وأسف غاية الأسف من " أنَّ عددًا من علماء أهل السنة والجماعة الذين يحكمون على الظاهر، وقسمًا من أهل السياسة الغافلين المنسوبين إلى أهل السنة والجماعة, يسعون لإيصاد أبواب تلك الخزينة العظمى، خزينة الولاية والطريقة، متذرعين بما يرونه من أخطاء قسم من أهل الطريقة وسوء تصرفاتهم" .
وعَجِبَ من أنهم " يبذلون جهدهم لهدمها وتدميرها وتجفيف ذلك النبع الفياض بالكوثر الباعث على الحياة، علمًا أنه يندر أن يوجد في الأشياء أو في المناهج أوالمسالك ما هو مبرأ من النقص والقصور".
وقرر أنه " لا يمكن أن تدان «الطريقة» ولا يحكم عليها بسيئات مذاهب ومشارب أطلقت على نفسها ظلمًا اسم «الطريقة»" .

ثالثًا- الخلاصة:

يتبين مما تقدم أنّ الأستاذ النورسي, رحمه الله, صاحبُ منهج واضحٍ في الطريقة والحقيقة، وأنَّ ما بلَغَنا عنه يشكِّل موردًا ثرًّا ومعينًا صافيًا، يحدونا إلى أن نجعل منه منهجًا للشباب، وأسوةً للكهول؛ لأنَّ حركة الفكر وكلماتِ العلم لن تكون فاعلةً في المجتمعات حتى تستمدَّ وقودها من أنوار التصوف وحقائقه، وعلى قادة الجماعات في العالم الإسلامي أن يدركوا ذلك، وأن يحولوه إلى ساحات التطبيق، والله ولي القصد.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية