وأما شيخه سيدي أبو سعيد سيدي الحسن بن أبي الحسن البصري
وكان من سادات التابعين وأكابر الصدِّيقين، معدودٌ في الطبقة العليا فيها من حُفَّاظ علمائهم، وكبراء زهادهم، وأرباب الورع والجد والإجتهاد، وأصحاب الأحزان، وكانت تلك الأوصاف؛ لبأسه حتى غمَّه الثرى، وكانت أمه من موالي أم سلمة تخدمها، فكان إذا بكى أخذته أم سلمة زوجة النبي ﷺ فتجعل ثديها في فِيِه، تعلِّله بذلك حتى تفرغ أمه، فدرت عليه بقدرة الله العزيز لما أراد الله أن يناله من النبوة، فكان آيةَ الله تعالى.
ويُحكى عنه في المعارف والحكم عجب العُجاب.
ويُقال: أن ذلك أتاه من بركات ذلك اللبن الذى أرضعته أم سلمة، وإنه وُلد قبل موت عمر أمير المؤمنين بسنتين.
ويُقال: أنه هو الذى حنّكه بإشارةِ أم سلمة، ومن أراده الله بخير فتح عليه أسبابه.
وكان كثيرًا ما يلازم عمران بن حصين.
ويقال عنه: أنه أخذ طريقة التصوّف، وببـركته انتفع؛ كذا ذَكره صاحب النجم.
وذَكر صاحب طبقات النساك لأبي سعيد بن الأعرابي : إن الحسن البصري أول مَنْ تكلّم في علوم التصوف، وميّز أعمال القلوب، وشرح أحوال المراقبة، وأبان مذاهب التصوف، ودعا إليها وادّعاها.
قال يوسف بن اسباط رضي الله عنه: مكث الحسن ثلاثين سنةٍ لم يُرَ ضاحكًا، وأربعين سنة لم يُمازح.
قال بعض العلماء : ما رأيت أخْوَف من الحسن، وعمر بن عبد العزيز؛ كأن النارَ لم تُخلق إلا لَهُمَا.
وفي كتاب الهداية: إنه قيل للحسن: يا أبا سعيد أينام الشيطان ؟ فقال للسائل: لو نامَ لوجدنا لنومه راحةً، ولكنه لا ينام. ولما وقف بعضُ العلماء على قول الحسن، قال: إنه عدو مبين ولا سبيلَ لنا إلى التخلُّص منه، والنجاة من غوائله إلا بعون الله وقوته ونصرته وحوله ومعونته، وأن يتخلَّص المرءُ من عدوِّه الساكن في صدره الذي يَحُول بين المرء وقلبه، ويجري منه مجرى الدم إلا بالاستعانة بالله والافتقار إليه، والاستعاذة به منه كما قال تعالى : ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: 98-100].
قلت: والصدق في اللجاء والاضطرار في الدعاء، وهما يخلِّصان العبدَ من آفاته، وارتجاء الفرج من الله والفضل. قال الله تعالى : ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 83].
ومن كلام الحسن رضي الله عنه : "والله ما أعزَّ الدرهمَ أحدٌ إلا أذلَّه الله تعالى"؛ لأنه قيل أول ما ضُرب الدينار والدرهم رفعهما إبليس ووضعهما على جبهته، ثم قبّلهما، وقال: من أحبكما فهو عبدي حقًّا.
قال صاحب الهداية، وابن الذهبي: كان الحسن البصري إمامًا رفيع الذكر، كبير الشأن، رأسًا في العلم والعمل.
قال صاحب الهداية: ومن حديثه عن أنس بن مالك قال: «بينما رسول الله ﷺ جالسٌ؛ إذ ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: عمر: بأبي أنت وأمي يارسول الله ما الذي أضحكك؟ قال: رجلان من أمتى جَثيا بين يدي ربِّ العزة، فقال أحدهما: يارب خُذ لي مظلمتي من هذا, فيقول الله عز وجل : «رد على أخيك مظلمته، فيقول: يارب لم يبق من حسناتي شيءٌ، فيقول الله تعالى للطالب : كيف تصنع بأخيك ولم تبقَ له حسنةٌ ؟ قال: يارب فليحمل عني من أوزاري، قال: ثم فاضت عينا رسول الله ﷺ بالبكاء، ثم قال: إن ذلك يوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم، قال: فيقول الله تعالى للطالب: «ارفع رأسك، أو قال: بصرك، فانظر في الجنان»، فيقول: يارب أرى مدائن من فضة، وقصور من ذهب مكلّلة باللؤلؤ؛ فلأي نبي، أو صديق هذا؟ فيقول الرب تبارك وتعالى: هذا لمن أُعطي ثمنه، فيقول: يارب ومن يملك ثمن ذلك ؟ قال: أنت تملك، قال يارب: بماذا ؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال يارب قد عفوت عنه، قال: فيقول الله تبارك وتعالى: خُذ بيدِ أخيك وادخله الجنة».
ثم قال الحسن البصري: ثم قال رسول الله ﷺ: «أيُّها الناس، اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين عباده يوم القيامة»
ومن كلامه : إن المؤمن يصبح حزينًا، ويمسي حزينًا؛ يكفيه الكَّف من التمر، والشربة من الماء.
وقال: والله الذى لا إله إلا هو؛ ما يسع المؤمن في دينه إلا الحزن.
وقال: حق لِمن يعلم أن الموت مورده، والساعة موعده، وأن القيامة بين يدي الله عز وجل مشهده؛ أن يطول حُزنه.
وقال: حق لعبد يؤمن بهذا القرآن إلا حُزنٌ وذُلٌ، ونَصبٌ وتَعبٌ.
وقال: ولا تدري، لعل الله اطّلع على بعض أعمالنا. وقَالَ : " نَضْحَكُ وَلا نَدْرِي ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِنَا ،فَقَالَ : لا أَقْبَلُ مِنْكُمْ شَيْئًا ، وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ لَكَ بِمُحَارَبَةِ اللَّهِ طَاقَةٌ ؟ وأنه من عصى الله فقد حاربه؟ والله لقد أدركت سبعين بدريًّا وأكثر لباسهم الصوف، ولو رأيتموهم لقلتم مجانين, ولو رأوا أخياركم، قالوا: ما لهؤلاء من خلاقٍ، ولو رأوا أشراركم قالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب.
قلت: ولو رأوا زماننا هذا لقالوا: والله هؤلاء شياطين، وليس لهم من جنس الآدميين.
ثم قال: ولقد رأيت أقوامًا كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب الذى تحت قدميه، ولقد رأيت أقوامًا يمسي أحدهم لا يجد عنده إلا قوتَ يومه يقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله ويتصدّق ببعضه، وإن كان لهو أحوج من الذى يتصدّق به عليه.
وقال: طول الحزن في الدنيا يُلقِّح العمل الصالح.
وقال: ما من رجلٍ أدرك القرن الأول ثم أصبح بين أظهاركم إلا أصبح مغمومًا وأمسى مغمومًا.
وقال: ابن آدم! لئن قرأت القرآن ثم آمنت به؛ ليطولنَّ في الدنيا حزنك، وليكثرن خوفك وبكاؤك.
وقال: من كانت له أربعُ خِلالٍ، أو قال خِصالٍ؛ حَرّمه الله على النار وأعاذه من الشيطان، مَن ملك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب .
وقال: والله لقد أدركت أقوامًا ما طوى أحدهم في سنة ثوبًا قطّ؛ يعني: ليس له إلا ثوبًا واحدًا؛ فيه يتصرّف، وفيه ينام لا يملك غيره.
وقال: وما أمر أهله باتخاذ طعام قطّ؛ يعني: ما وجد أكله، ومالم يجد صبر، وطوى، ولا يتكلف في شيءٍ من أمر قوته؛ بل ولا سائر ضرورياته لاستغراقهم في أوقاتهم.
قال: وما جعل بينه وبين الأرض شيئًا قطٌّ.
وكانت سيرته رضي الله عنه أشبه الناس بسيرة أصحاب رسول الله ﷺ.
ومن بعض مكاتباته لعمرَ بنِ عبد العزيز لَمَّا استخلف:
أما بعد.. فإن الدنيا سخيفةٌ مخيفةٌ، وإنما أُهبِطَ آدمُ من الجنة؛ عقوبةً لا كرامةً.
واعلم أن سرعتها ليست كسرعةِ من أكرمها مهين، ولها في كل حينٍ قتيلٌ.
فكن يا أمير المؤمنين؛ كالمداوي جراحَه؛ يصبر على شدة الدواء؛ خيفةَ طول البلاء.
وقال حميد الطويل: خطب رجلٌ إلى الحسن البصري ابنته، وكنت أنا السفير بينهما، فكان قد رضيه، فذهبت يومًا أُثني على الرجل بين يديه، فقلت: يا أبا سعيد أزيدك من خبره؛ إن له خمسين ألف درهمٍ، فقال له: خمسين ألف ما اجتمعت من حلالٍ، والله لا أنكحته ابنتى أبدًا، فقلت: يا أبا سعيد ما علمت لمسلم ماله ورع.
قال: وإن كان جَمَعَه من حلالٍ، فقد صرفه عن حق الله لا يجري بيننا وبينه صهرًا أبدًا.