(كل قول هو خطاب وجود، وشعور بالوجود وجد للموجود)
الشخصية الصوفية تحمل عبء الوجود، وتعّبر عنه أيما تعبير، فكل مكونات الشخصية الوجودية القاعدية والمُمثّلة مجسدة بالفعل في الكائن الصوفي، وقبل الحرف، أي قبل ظهور الفكر الوجودي كنسق فلسفي. الكائن المتصوف شخص موجود يعي وجوده في هذا الوجود، والقول الصوفي دليل على وجوده، والقاطرة التي تحمله من طبيعة ماهوية، يستشف منها الدعوة إلى الارتقاء والسمو وتجاوز الزيف الاجتماعي السائد والمسيطر، والكشف عن عيوبه ونقائصه وفضح بنيانه المنطقي، لكي تتحقق بعد ذلك الوضعية الإنسانية المثلى، المترجمة لما هو جوهري في الإنسان، دليلنا في ذلك فكرة الأحوال والمقامات الصوفية، فالقول الصوفي يخالف كل ما هو مألوف، كل ما هو بدون هوية، كل ما هو عارض. جاء في ديوان الحلاج: «قال أبو عبدالله محمد بن الحسن السلمي في كتاب الطبقات الصوفية: سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت أحمد بن فارس بن حسري يقول: سمعت الحسين بن منصور يقول: حجتهم بالاسم فعاشوا، ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا ولو كُشف لهم عن الحقيقة لماتوا».
إنّ قول الحلاج الماثل أمامنا قرينة (عينية) تمثل الميل الوجودي الذي يطبع القول الصوفي بطابع البوح عن مأساة الإنسان المتحرر من كل انتماء قد يُعيق صيرورة الإنسان نحو أكثر حرية وأكثر انعتاق من القيود والأوهام الإنسانية والتي قد تمتصه وتُحيله رقماً أو آلة خادمة. يقول كولن ولسن: «... ونجد هذا في معظم أوصاف التجربة الصوفية؛ إذ يُوصف المكان الذي ستحدث التجربة فيه ببضعة سطور بينما يستغرق التعبير عن التجربة ومعاناتها صفحات» (ك، ولسن، 1981، ص: 14).
تجربة إنسانية يعاني ويُكابد فيها الإنسان من أجل الحرية ومن أجل المعرفة، ومن أجل إدراك وفهم الوجود واختفاء المعنى عن هذا الوجود. إنها تجربة الكائن القابع هاهنا، الذي يرى وينظر باتجاه الأشياء المنسحبة أمام عينيه، كلما حاول الاقتراب والدنو منها. تجربة يكون فيها الإنسان غريقاً، يستغيث في محيط الوجود المتلاطم، مستهلك الكينونة، والذي لا يتوقف عن البحث، عن جر وتكوير وتدوير صخرة الوجود إلى أكثر علو ممكن. يقول سُيورون: «إن الحقيقة تكمن في المأساة الفردية فإذا عانيت بالفعل، فإنني أعاني أكثر من فرد واحد، فأنا أتجاوز دائرة أنايا (ذاتي)». (1337: E,cioron ,1995,P).
هكذا هي تجربة المتصوف (الحلاج مثلاً) تُجسد حالة الإنسان الذي يعيش وضعية وجدانية وجودية طارئة، فهو في كل حين (آنية) مُستنفرة قوى الباطن، بها يجابه ويواجه ويتصدى وهم وسراب العيش اليومي الخانق الجاثم فوق الذات، إنها تجربة سزيف الأسطورية، مُستنسخة في كل كائن يحمل وعي الوجود المُتناهي.
غوزي مصطفى