آخر الأخبار

جاري التحميل ...

البعد التوحيدي للذكر في الإسلام (الوسيلة والغاية) (20)


ثانيا: الذكر كموحد بين صدق المقامات والغاية عند الصوفية :

          إن توحيد الغاية في الدعوة إلى الله ليس بالأمر الهيِّن السهل، وليس لكل من هب ودب الأهلية لأن ينصب نفسه داعية إلى الله ويصبح بذلك دالا على الله دلالة بداية وغاية. كما أن اعتماد الخطاب كخطاب تبليغي محض في الدعوة قد لا يؤدي نتيجته ما لم يناسب الداعية باطنه لموضوع الخطاب وأبعاده وغايته الوحيدة التي لا تقبل التعدد أو الشريك.
          وقد يمكن لكل دارس أن يبلغ الخطاب الديني الإسلامي ولكنه مع ذلك لا يسمى داعية إلى الله. لأنه يكون مجرد حاك أو مبلغ «ورب مبلغ أوعى من سامع» و «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
          بل إذا لم تتوفر لدى المبلغ صفة الصبر في التبليغ انقلبت الدعوة إلى مقصد ذاتي محض وبالتالي افرغ النص المبلغ من محتواه الغائي الموضوعي والأساسي في الدعوة فتتحول الدعوة من لغة التقريب والتحبيب إلى لغة التنفير والتعسير، وليس من مرجع لذلك إلا إلى الذاتية التي تغلب على الداعية الذي حول الدعوة من غايتها الحقيقية إلى حظه النفسي. وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ونادى بالتزام أسس الدعوة التي ينبغي أن تكون خالية من الآراء الذاتية وأن يوظف الخطاب الالهي. كما أراد الله له أن يوظف دون استزادة او نقصان يكون سببه هوى نفسيا أو أثرة ذاتية سلوكية. وقد نجد هذا المعنى في الأحاديث التالية :
          فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا.» وعن أبي هريرة أن أعرابيا بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء، أو سجلا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال : قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله: إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها فظن الناس أنه يدعو عليهم. فقال اللهم اهد دوساواءت بهم» فكانت النتيجة أن أسلمت قبيلة دوس فنزل الطفيل بن عمرو الدوسي المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس.
          فاخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله  وأساليبه في تبليغ الخطاب الإلهي وتوظيفه توظيفا عمليا لغاية واحدة هي إرادة وجه الله تعالى أجل من أن تحصر في خبر أو خبرين، و إنما هو كله في ذاته وسيرته الزكية المشرقة و التي لايمكن ان توصف إلا بما وصفها خالقها تعالى بقوله «وإنك لعلى خلق عظيم». وكنموذج وتجسيد عملي لهذا الخلق العظيم الذي يرسم لنا خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في الدعوة إلى الله بالحفاظ على وحدة الغاية في الرضى والغضب وكل الاحوال أعرض هذا الحديث الشريف المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها  قالت : «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين  قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله ».
          فالدعوة بكل متطلباتها ليس لها من غاية سوى إرادة وجه الله تعالى، حتى الانتقام للنفس فإنه ينبغي أن يقصى من السلوك في الدعوة إلى الله ، وإلا كان الشخص الداعية مجرد إنسان يريد أن يفرض دعوته بنفسه لنفسه لا بالله لله. وبذلك ينقطع الحبل بين الداعية والدعوة والمدعو، فلا يوظف النص في صورته الحقيقية رغم انه مفهوم لغة وفكرا، لأن مبلغه يبلغه بأسلوبه الذاتي الخاص وهو مفصول عن الخصوصية الروحية والمحددة في وحدة الغاية للدعوة إلى الله، والتي في حقلها وممارستها المتواصلة معرضة لهزات الزمان والمكان والظروف والحيثيات، فيتحدد الصادق من الكاذب من الدعاة كما هو وارد في الأثر: «ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل». إذ الأصل في التناكر والتعارف هو المناسبة الروحية ولهذا كان الخسران يشمل الكاذب في دعوته باعتباره أنه لم يدع إلى صدق لان غايته غير غاية الدعوة في أصلها. ويشمل المكذب لدعوة الصدق لانه تنكر لأصل وجوده بسبب غفلته عن ذكره ونسيان فطرته التوحيدية التي فطر عليها بإفراطه في اتباع الصوارف من الأهواء وزينة الحياة الدنيا. كما ان الفلاح يشمل خلافا لهذا المآل السابق صاحب الدعوة الصادق في غايته والمستجيب لها بتصديقه للحق الذي هو أصـل وجوده وفطرته، للتناسب الحاصل بين المصـدق
والصادق والمصدق به وهو الخطاب الإلهي أصل الدعوة  والمحدد لغايتها. وقد جمع هـذه الأقسـام والمناسبات كلها قول الله تعالى: «فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون».
          وبما ان الصادقين هم اهل المناسبة الحقيقية في تبليغ الدعوة إلى الله على وجهها الصحيح وفي صورة إخلاص العبودية المحدد لوحدة الغاية، فإن القرآن الكريم سينص على امر جازم باتباع وملازمة صحبة والاقتداء بهؤلاء الصادقين في دعوتهم، وذلك في قول الله تعالى : «يا أيها الذين آمنوااتقوا الله وكونوا مع الصادقين».
          والصدق في الدعوة يشمل كل السلوك الإنساني وهو صدق العقيدة والأقوال والأفعال والاحوال والمقامات.
          وقد يصدق اغلب الدعاة في العقيدة والأقوال والأفعال إلا انه قد ينقصهم المحدد الباطني لتحقيق إخلاص العبودية الذي هو الضامن لإخلاص الدعوة ووحدة غايتها ألا وهو صدق الأحوال والمقامات كالخوف والرجاء والحب والرضا والتوكل على الله. وهي أعلى درجات الصدق في مقامات الدين وعلى رأسها مقام الرضا كما قال شيخنا سيدي حمزة القادري بودشيش رضي الله عنه.
          وهذا البعد التوحيدي للذكر في ربطه بين حال القلب وتصريح اللسان هو الذي فهمه الصوفية في ادق معانيه أكثر من سائر الفرق الإسلامية او أهل التخصص في العلوم الإسلامية من فقه وتفسير وحديث وعلم كلام وما إلى ذلك، وقد وظفوه في منهجهم للدعوة إلى الله تعالى الذي هو اقتباس وائتساء بالمنهج النبوي الظاهري والباطني كما بينا. بحيث انهم رسموا غايتهم في بداياتهم فكانت حكمتهم الرائعة « من أشرقت بدايته أشرقت نهايته». لوجود التلازم بين النية ونوع العمل. فانشراح الصدر كفيل بتصوير الهدف ورسم الغاية منذ البداية لأنه يعطي رؤية واسعة وإحاطية بالمقصد من الدعوة والهدف من الوجود وحصر هذا الوجود الإنساني في صفة واحدة وهي عبادة الله الواحد القهار. وإذا كان الوجود محصورا في هذه الوظيفة والغاية فالأجرة عنها لن تكون إلا من جنسها وهي إرادة وجه الله تعالى، قصد التحصل على السعادة بالنظر إلى وجهه الكريم «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة». والفوز بهذا المقام لن يتحقق إلا إذا كان المطلوب هو الواحد. ولهذا فالداعية إلى الله لا ينبغي أن يلتفت إلى غير هذا المطلب سواء في ظاهر دعوته أو باطنها وفي هذا نجد ابن عطاء الله السكندري الصوفي يقول : «ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة الذي تطلب أمامك ولا تبرجت ظواهر المكونات إلا ونادتك حقائقها : إنما نحن فتنة فلا تكفر».
ويقول صوفي آخر :
ولا تلتفت في السير غيرا فكل ما * سوى الله غير فاتخذ ذكره حصــــنا 
وكل مقام لا تقـم فيه فإنــه * حجاب فجد السير واستنجد العونـا 
ومهما ترى كل المراتـب تجتلى * عليك فحل عنها فعن مثلها حلـــنا 
وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب * فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنــــى
          فبانشراح الصدر الناتج عن الذكر وبالذكر المؤسس لانشراح الصدر سيصبح الداعية إلى الله تعالى بالذوق أو المفهوم الصوفي بعدما كان ذاكر مذكرا. أي أنه سيصبح برهانا ودليلا على الله تعالى بالحال الباطني الذي أصبح يتمتع به في قربه من الله تعالى كما ورد في الحديث القدسي الخاص بالولي وهي نفس المواصفات التي يشترطها الصوفية في الشيخ المربي والذي هو في حد ذاته داعية إلى الله بالحال والمقال.
          فهذا الحال الباطني المنصوص عليه سيجعل من الولي مركزا معرفيا وعينا ساقية لكل من ينشد الحقيقة بصدق وإخلاص، لانه يجمع بين سلامة الحواس المفيدة للعلم والمعرفة تلقيا وتلقينا، وسلامة الأعضاء المفيدة للعمل والسلوك اقتداء واهتداء. وكل ذلك مرجعه إلى سلامة الباطن الذي أصبح على نور من ربه بسبب الإنشراح الذي متعه به الله تعالى حتى أصبح مركزا مؤهلا لاستقبال الالهام الالهي الذي سببه ذكر الله تعالى كما في  قوله : «فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون».
وهذا الباطن بالتخصيص الإلهي سيصبح باثا ودالا على الله بالتلقين والإيحاء الذي هو جوهر التأثير في الدعوة إلى الله. وهذا المعنى الإيحائي قد سبقت الإشارة إليه بخصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجد له امتدادات جزئية تتمثل في شخص المؤمنين برسول الله صلى الله عيله وسلم على شرط آية الأسوة كما ذكرنا. وهذا ما يمكن أن نستشفه من الحديث الذي رواه الإمام أحد عن أسماء بنت يزيد بن السكن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ألا أخبركم بخياركم قالوا : بلى يا رسول الله قال: «الذين إذا رأوا ذكر الله عز وجل» ثم قال:« ألا أخبركم بشراركم: المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت».
فالداعية إلى الله ينبغي أن يكون مذكرا بالله تذكير رؤية قبل تذكير آراء وهذا التذكير روحي بالدرجة الأولى وهو يحدد الغاية منذ البداية، إذ الذي يقتنع بالداعية إلى الله على هذا المستوى يكون من الصعب عليه إذا أراد الاقتداء به ان يعدد غاياته وهو في صحبته والإلتزام بدعوته، إذ النية الأولى هي التي عليها النتيجة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امراة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وبما أن المذكر قد ذكر بالله ابتداء فإنه سيكون داعيا إلى الله غاية لأن دعوته أولا وأخيرا هي التذكير بالله تعالى الذي لا يتغير في ذاته وصفاته، والداعي إليه ينبغي أن يكون محققا توحيديا عارفا بالله تعالى، حالا بانشراح صدره، ومقالا بذكره لله تعالى. وهذا ما يتشبت به الصوفية كما عبر عنه ابن عطاء الله الـسكندري في قوله : « لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله». وهذا المعنى في الحقيقة ليس سوى الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم والتي من خلالها يمكن أن يصبح الداعية مؤهلا للدعوة في تأسيه بباطن وظاهر الرسول صلى الله عليه وسلم على مستوى الحال والمقال يقول الله تعالى :« لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا» صدق الله العظيم.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية