الباب الثالث عشر في تجلّي الأسماء
إذا تجلّى الله تعالى على عبد من عبيده في اسم من أسمائه اصطلم العبد تحت أنوار ذلك الاسم، فمتى ناديت الحق بذلك الاسم أجابك العبد لوقوع ذلك الاسم عليه، وأول مشهد من تجليات الأسماء أن يتجلى الله لعبده في اسمه الموجود، فيطلق هذا الاسم على العبد.
وأعلى منه تجلّيه له في اسمه الواحد وأعلى منه تجلّيه له في اسمه الله، فيصطلم العبد لهذا التجلي ويندك جبله، فيناديه الحق على طور حقيقته: إنه أنا الله، هنالك يمحو الله اسم العبد ويثبت له اسم الله تعالي.فإذ قلت: يا الله، أجابك هذا العبد: لبيك وسعديك.
فإن ارتقى وقوّاه الله وأبقاه بعد فنائه كان الله مجيباً لمن دعا هذا الاسم، فإذا قلت مثلاً: يا محمد، أجابك الله لبيك وسعديك، ثم إذا قوي العبد في الترقي تجلى الحق له في اسمه الرحمن ثم في اسمه الربّ ثم في اسمه الملك ثم في اسمه العليم ثم في اسمه القادر، وكل تجل لله في اسم من هؤلاء الأسماء المذكورة فإنه أعزّ مما قبله في الترتيب.
وذلك لأن تجلي الحق في التفصيل أعزّ من تجلّيه في الإجمال، وظهوره لعبده في اسمه الرحمن تفصيل الإجمال ظهر به عليه في اسمه الله، وظهوره لعبده في اسمه الربّ تفصيل للإجمال ظهر به عليه في اسمه الرحمن، وظهوره في الملك تفصيل للإجمال ظهر به عليه في اسمه الربّ، وظهوره في اسمه العليم والقادر تفصيل الإجمال ظهر به عليه في اسمه الملك.
وكذلك بواقي الأسماء، خلاف تجلياته الذاتية، فإن ذاته إذا تجلّت لنفسه بحكم مرتبة من هذه المراتب كن الأعم فوق الأخص، فيكون الرحمن فوق الرب، وفوقهما الله فافهم.
وذلك بخلاف التجليات الأسمائية المذكورة، فينتهي العبد في هذه التجلّيات الأسمائية إلى حقيقتها ذاتية إلى أن تطلبه جميع الأسماء الإلهية طلب وقوع كما يطلب الاسم المسمى، فحينئذ يغرّد طائر أنسه على فنن قدسه قائلاً:
نادي المنادي باسمها فأجيبه وادعى فليلي عن ندائي تجيب
وما ذاك إلا أننا روح واحد تداولنا جسمان وهو عجيب
وما ذاك إلا أننا روح واحد تداولنا جسمان وهو عجيب
كشخص له اسمان والذات واحد بأي تنادي الذات منه فتجيب
فذاتي لها فان واسمي فاسمها وحالي بها في الاتحاد غريب
ولسنا على التحقيق ذاتي ذاتنا ولكنه نفس المحبّ حبيب
العجب في التجليات الأسمائية أن المتجلي له لا يشهد إلاَّ الذات الصرف ولا يشهد الاسم، لكن المميز يعلم سلطانه من الأسماء التي هو بها مع الله تعالي تعالى، لأنه استدل على الذات بذلك الاسم، فعلم مثلاً منه أنه الله أو أنه الرحمن أو أنه العليم أو أمثال ذلك، فذلك الاسم هو الحاكم على وقته وهو مشهده من الذات.
والناس في تجليات الأسماء على أنواع، وسنذكر طرفاً منها إذ لا سبيل إلى إحصاء جميع الأسماء، ثم كل اسم يتجلى به الحق، فإن الناس فيه مختلفون وطرق وصولهم إليه مختلفة ، ولا أذكر في جملة طرق كل اسم إلاَّ ما وقع لي في خاصة سلوكي في الله، بل جميع ما أذكره في كتابي بطريق الحكاية عن غيري كان أو عنّي فإني لا أذكره إلاَّ على حسب ما فتح الله به عليَّ في زمان سَيْري في الله وذهابي فيه بطريق الكشف والمعاينة.
فلنرجع إلى ما كنا بصدده من ذكر الناس في تجليات الأسماء، وهم على أنواع :
فمنهم من تجلى الحق عليه من حيث اسمه القديم، وكان طريقه إلى هذا التجلي أن كشف له الحق عن كونه موجوداً في علمه قبل أن يخلق الخلق، إذ كن موجوداً في علمه بوجود علمه، وعلمه موجود بوجوده سبحانه فهو قديم، والعلم قديم، والمعلوم من العلم للاحق بالعلم فهو قديم، لأن العلم لا يكون علماً إلاَّ إذا كن له معلوم، والمعلوم هو الذي أعطى العالم اسم العالمية، فلزم من هذا الاعتبار قدم الموجودات في العلم الإلهي ، فرجع هذا العبد إلى الحق سبحانه وتعالى من حيث اسمه القديم، فعندما تجلى له من ذاته القدم الإلهي اضمحل حدثه، فبقي قديماً بالله تعالى فانياً عن حدثه.
ومنهم من تجلى له من حيث اسمه الحق، فكان طريقه إلى هذا التجلي أن كشف الحق له عن كونه موجودا في علمه قبل أن يخلق الخلق إذ كان موجودا في علمه بوجود علمه، وعلمه موجود بوجوده سبحانه فهو قديم والعلم قديم المعلوم، لأن العلم لا يكون علما إلا إذا كان معلوما، والمعلوم هو الذي أعطى العالم غسم العالمية، فلزم من هذا الاعتبار قدم الموجودات في العلم الإلهي فرجع هذا العبد إلى الحق سبحانه وتعالى من حيث اسمه القديم، فعندما يتجلى له من حيث اسمه الحق، وكان طريقه التجلي بأن كشف له الحق سبحانه عن سر حقيقته المشار إليها في قوله :{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}.فعندما تجلّت به ذاته من حيث اسمه الحق، فنى منه الخلق وبقي مقدس الذات منزّه الصفات.
ومنهم من تجلّى له الحق سبحانه وتعالى من حيث اسمه الواحد،وكان طريقه إلى هذا التجلي بأن كشف الحق له عن محتد العالم وبروزه من ذاته سبحانه وتعالى وبروزه من ذاته سبحانه وتعالى كبروز الموج من البحر فشهد ظهوره سبحانه وتعالي في تعدد المخلوقات بحكم واحديته ، فعند ذلك اندَكَّ جبله وصعق كليمه ، فذهبت كثرته في وحدة الواحد سبحانه وتعالى ، وكانت المخلوقات كأن لم تكن وبقي الحق كأن لم يزل.
ومنهم من تجلّى له الحق سبحانه وتعالى من حيث اسمه القدوس، وكان طريقه بأن كشف له عن سرّ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}. فأعلمه أن روحه نفسه لا غيره، وروح الله مقدسة منزّهة، فعند ذلك تجلى له الحق في اسمه القدوس، ففني من هذا العبد نقائص الاكوان، وبقي بالله تعالى منزّهاً عن وصف الحدثان.
ومنهم من تجلى له الحق سبحانه وتعالى من حيث اسمه الظاهرفكشف له عن سرّ ظهور النور الإلهي في كثائف المحدثات ليكون طريقاً له إلى معرفة أن الله هو الظاهر، فعند ذلك ظهر له بأنه الظاهر، فبطن العبد بطون الخلق في ظهور وجود الحق.
ومنهم من تجلى له الحق سبحانه وتعالى من حيث اسمه الباطن وكان طريقه بأن كشف له عن قيام الأشياء بالله ليعلم أنه باطنها فعند أن تجلى له ذاته من حيث اسمه الباطن ظهر ظهوره بنور الحق، وكان الحق له باطناً وكان هو للحق ظاهراً.
ومنهم من تجلّى له الحق سبحانه وتعالى من حيث اسمه الله، والطريق إلى هذا التجلي غير منحصرة بل إلى تجلي كل اسم من أسماء الله تعالى كما سبق بأنها لا تنضبط لاختلاف الظاهر باختلاف القوابل، فإذا تجلى الحق لعبده من حيث اسمه الله فني العبد عن نفسه وكان الله عوضاً عنه له فيه، فخلص هيكله من رق الحدثان وفك أسره من قيد الأكوان، فهو أحدي الذات واحد الصفات لا يعرف الآباء والأمهات، فمن ذكر الله فقد ذكره، ومن نظر الله فقد نظره، وحينئذ أنشد لسان حاله بغريب عجيب مقاله :
خبتني فكانت في عين نيابة أجل عوضاً بلى عين ما أنا واقع
فكنت أنا هي وهي كانت أنا وما لها في وجود مفرد من منازع
بقيت بها فيها ولا تاء بيننا وحالي بها ماض كذاك مضارع
ولكن رفعت النفس فارتفع الحجا ونبهت من نومي فما أنا ضاجع
وشاهدتني حقاً بعين حقيقتي فلي في جبين الحسن تلك الطلائع
جليت جمالي فاجتليت مرائي ليطبع فيها للكمال مطابع
فأوصافها وصفي وذاتي ذاتها وأخلاقها لي في الجمال مطالع
واسمي حقاً اسمها واسم ذاتها لي اسم ولي تلك النعوت توابع
ومنهم من تجلّى له الحق سبحانه وتعالى من حيث اسمه الرحمن، وذلك أنه لما تجلى له الحق سبحانه وتعالى من حيث اسمه الله دلّ بذاته على مرتبته العلية الكبرى الشاملة لأوصاف المجد السارية في جميعالموجودات، وكان ذلك طريقاً له إلى الوصول لذلك التجلّي الذاتي من حيث اسمه الرحمن، وشأن العبد في هذا التجلي أن تنزل عليه الأسماء الإلهية اسماً اسماً، فلا يزال يقبل منها على قدر ما أودع الله في هذا العبد من نور ذاته إلى أن ينزل عليها اسم الربّ، فإذا قبله وتجلى له الحق فيه تنزَّلت عليه الأسماء النفسية المشتركة التي هي تحت هيمنة الربّ كالعليم والقدير وأمثالهما، حتى ينزل عليه اسم الملك فإذا قبله وتجلّى له الحق في ذاته تنزّلت عليه بواقي الأسماء بكمالها اسماً فاسماً إلى أن ينتهي إلى اسمه القيوم، فإذا قوّاه الله وتجلى له الحق في اسمه القيوم انتقل من تجليات الأسماء إلى تجليات الصفات.