آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل/الجيلي (15)

الباب الرابع عشر في تجلّي الصفات


إذا تجلّت ذات الحق سبحانه وتعالى على عبده بصفة من صفاتها، سبح العبد في فلك تلك الصفة إلى أن يبلغ حدّها بطريق الإجمال لا بطريق التفصيل، فأن الصفاتيين لا تفصيل لهما إلاَّ من حيث الإجمال.
فإذا سبح العبد في تلك الصفة واستكملها بحكم الإجمال واستوى على عرش تلك الصفة، فكان موصوفاً بها، فحينئذ تتلقاه صفة أخرى، ولا يزال كذلك إلى أن يستكمل الصفات جميعها.

يا أخي لا يشكل عليك هذا ، فإن العبد إذا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يتجلى عليه باسم أو صفة، فإنه يفني العبد فناء يعدمه عن نفسه، ويسلبه عن وجوده؛ فإذا طمس النور العبدي وفنى الروح الخلقي، أقام الحق سبحانه وتعالى في الهيكل العبدي من غير حلول من ذاته لطيفة غير منفصلة عنه ولا متصلة بالعبد عوضاً عن ما سلبه منه، لأن تجليه على عباده من باب الفضل والجود، فلو أفناهم ولم يجعل لهم عوضاً عنهم لكان ذلك من باب النقمة، وحاشاه من ذلك، وتلك اللطيفة هي المسماة بروح القدس.

فاذا أقام الحق لطيفة من ذاته عوضا عن العبد ، كان التجلي على تلك اللطيفة فما تجلي الا على نفسه ، لكننا نسمي تلك اللطيفة الإلهية عبدا باعتبار أنها ، عوض عن العبد، و إلا فلا عبد ولا رب، اذ بانتفاء المربوب انتفي اسم الرب ، فما ثم الا الله تعالى وحده الواحد الأحد ، وفي ذلك أقول :

ما للخليقة إلاَّ اسم الوجود على ..... حكم المجاز وفي التحقيق ما أحد
فعندما ظهرت أنواره سلبوا ...... ذاك التسمي فلا كانوا ولا فقدوا
أتاهموا وهموا في عينه عدمو     ...... وفي الفناء فهم باقون ما جحدوا
فعندما عدموا صار الوجود له ...... وكان ذا حكمه من قبل ما وجدوا
فالعبد صار كما أن لم يكن أبداً ...... والحقّ كان كما أن لم يزل أحد
لكنه عندما أبدى ملاحته ..... كسا الخليقة نور الحق فاتحدوا
أفنى فكان عن الفاني به عوضاً ..... وقام عنهم وفي التحقيق ما فقدوا
كالموج حكمهموا في بحر وحدته ...... والموج في كثرة بالبحر متحد
فإن تحرّك فالأمواج أجمعه ...... وإن تسكن لا موج ولا عدد
اعلم أن تجليات الصفات عبارة عن قبول ذات العبد الاتصاف بصفات الرب قبولاً أصلياً حكمياً قطعياً، كما يقبل الموصوف الاتصاف بالصفة. وذلك لما سبق أن اللطيفة الإلهية التي قامت عن العبد بهيكل العبدي، وكنت عوضاً عنه، وهي في اتصافها بالأوصاف الإلهية اتصاف أصلي حكمي قطعي، فما اتصف إلاَّ الحقّ بما له، فليس للعبد هنا شيء، والناس في تجليات الصفات على قدر قوابلهم، وبحسب وفور العلم وقوة العزم.
فمنهم من تجلى الحق له بالصفة الحياتية، فكان هذا العبد حياة العالم بأجمعه، تسري بسريان حياته في الوجود جميعها وروحها، ويشهد المعاني صوراً لها منه حياة قائمة بها، فما ثمَّ معنى كالأقوال والأعمال، ولا ثم صورة لطيفة كانت كالأرواح، أو كيفية من غير واسطة، بل ذوقا الهيأ كشفيا غيبيا عينيا، وكنت في هذا التجلي مدة من الزمان ، أشهد حياة الموجودات في، وانظر القدر الذي لكل موجود من حياتي، كل على ما اقتضاه ذاته ، وأنا في ذلك واحد الحياة غير منقسم بالذات، إلى أن نقلتني يد العناية عن هذا التجلي إلى غيره ولا غير.
ومنهم من يتجلى الله عليه بالصفة العلمية، وذلك أنه لما تجلى عليه بالصفة الحياتية السارية في جميع الموجودات ذاق هذا العبد بقوّة أحدية تلك الحياة جميع ما هي الممكنات.
فحينئذ تجلّت الذات عليه بالصفة العلمية، وذلك أنه لما تجلى عليه فعلم العوالم بأجمعها على ما هي عليه من تفاريعها من المبدأ إلى المعاد، وعلم كل شيء كيف كان وكيف هو كائن وكيف يكون  وعلم ما لم يكن ولم لا يكون ما لم يكن ولو كان ما لم يكن كيف كان يكون. كل ذلك علماً أصلياً كشفياً ذوقيا من ذاته، لسريانه في المعلومات علماً إجمالياً تفصيلياً كلياً جزئياً مفصلاً في إجماله لكن في غيب الغيب، والذي منزل التفصيلي من غيب الغيب إلى شهادة الشهادة، ويشهد تفصيل إجماله في الغيب.
ويعلم الإجمال الكلي في غيب الغيب، والصفاتي ليس له من العلم إلاَّ وقوعه عليه في غيب الغيب، وهذا الكلام لا يفهمه إلاَّ الغرباء، ولا يذوقه إلاَّ الأمناء الأدباء.
ومنهم من تجلّى الله عليه بصفة البصر، وذلك أنه لما تجلى عليه بصفته العلمية الإحاطية الكشفية، تجلى عليه بصفة البصر، فكان بصر هذا العبد موضع علمه، فما ثم علم يرجع إلى الحق، إلاَّ وكان خبر هذا العبد واقفا عليه، فهو يبصر الموجودات كما هي عليه في غيب الغيب، والعجب كل العجب أن يجهلها في الشهادة.
فانظر إلى هذا المشهد العليّ، والمنظر الجليّ ما أعجبه وما أعذبه، وما ذاك إلاَّ أن العبد الصفاتي ليس بيد خلقه شيء مما بيد حقه فلا اثنينية. أعني لا يظهر على شهادته مما هو عليه غيبه إلاَّ بحكم المقدور في نقض الأشياء، فإن الحق يبرزها إكراماً له، بخلاف العبد الذاتي فإن شهادته غيبه، وغيبه شهادته فلتفهم.
ومنهم من تجلّى عليه بصفة السمع، فيسمع نطق الجمادات والنبات والحيوان، وكلام الملائكة واختلاف اللغات، وكان البعيد عنه كالقريب، وذلك أنه لما تجلى الله له بصفة السمع سمع بقوّة أحدية تلك الصفة اختلاف تلك اللغات وهمس الجماد والنبات.
وفي هذا التجلي سمعت علم الرحمانية من الرحمن، فتعلمت قراءة القرآن، فكنت الرطل وكان الميزان، وهذا لا يفهمه إلاَّ أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
ومنهم من تجلى الله عليه بصفة التكلم، فكانت الموجودات من كلام هذا العبد، وذلك أنه لما تجلى عليه الله بالصفة الحياتية، ثم علم بالصفة العلمية ما فيه من سرّ الحياة منه، ثم أبصرها ثم سمعها، فبقوّة أحدية حياته تكلم.
وكانت الموجودات من كلامه، وحينئذ شهد تكلمه أنه لا كما هو عليه أبداً، أن لا نفاد لكلماته، أي لا آخر لها. ومن هذا التجلي يكلم الله عباده دون حجاب الأسماء قبل تجليها.
فمن المكلمين من تناجيه الحقيقة الذاتية من نفسه، فسمع خطاباً لا من جهة بغير جارحة، وسماعه للخطاب بكليته لا بأذنه.
فيقال له: أنت حبيبي أنت محبوبي، أنت المراد ، أنت وجهي في العباد، أنت المقصد الأسنى، أنت المطلب الأعلى، أنت سرّي في الأسرار، أنت نوري في الأنوار، أنت عيني أنت زيني، أنت جمالي أنت كمالي، أنت اسمي أنت ذاتي، أنت نعتي أنت صفاتي، أنا اسمك أنا رسمك، أنا علامتك كنا وسمك، حبيبي أنت خلاصة الأكوان والمقصود من الوجود والحدثان، تقرّب إلى شهودي فقد تقرّبت إليك بوجودي لا تبعد فإني كنا الذي قلت { ونحن أقرب اليه من حبل الوريد } .
لا تتقيّد باسم العبد، فلولا الرب ما كان العبد، أنت أظهرتني كما أنا أظهرتك، فلولا عبوديتك لم تظهر لي ربوبية.
أنت أوجدتني كما أنا أوجدتك، ولولا وجودك ما كان وجودي موجوداً عندك.
حبيبي الدنوّ الدنوّ، حبيبي العلوّ العلوّ. حبيبي أردتك لوصفي واصطفيتك لنفسي فلا ترد نفسك لغيري ولا ترد غيري لك. حبيبي شمني في المشموم، حبيبي كلني في المطعوم، تخيلني في المهموم. حبيبي تعقلني في المعلوم، حبيبي شاهدني في المحسوس، حبيبي البسني في الملبوس. حبيبي أنت المراد لي أنت المكنى بي وأنت المكنى عنه بي.
ما ألذّها من معاطفة، ما أحلاها من ملاطفة.
ومن المكلمين من يحادثه الحق على لسان الخلق، فيسمع الكلام من جهة ولكن يعلمه من غير جهة ونصيحة من الخلق ولكن يسمعه من الحق. وفي ذلك أقول:
شغلت بليلى عن سواها فلو أرى ..... جماداً لخاطبت الجماد خطابها
ولا عجب أني أخاطب عزة  ...... جماداً ولكن العجيب جوابها
ومن المكلمين من يذهب به الحق من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح وهؤلاء أعلى مراتب. 
فمنهم من يخاطب في قلبه. ومنهم من يصعد بروحه إلى سماء الدنيا.
ومنهم إلى الثانية والثالثة كل على حسب ما قسم له، ومنهم من يصعد به إلى سدرة المنتهى فيكلمه هناك، وكل من المكلمين على قدر دخوله في الحقائق تكون مخاطبات الحق له، لأنه سبحانه وتعالى لا يضع الأشياء إلاَّ في موضعها. ومنهم من يضرب له عند تكليمه إياه نور له سرادقا من الأنوار. ومنهم من ينصب له منبراً من نور. ومنهم من يرى نوراً في باطنه فيسمع الخطاب من تلك الجهة النورية، وقد يرى النور كثيراً أوكثيرا ومستديراً ومتطاولاً.
ومنهم من يرى صورة روحانية تناجيه، كل ذلك لا يسمى خطاباً، إلا إن أعلمه الله أنه هو المتكلم، وهذا لا يحتاج فيه إلى دليل، بل هو على سبيل الوهلة فإن خاصية كلام الله أن لا يخفى ،وأن يعلم أن كلما سمعه أنه كلام الله فلا يحتاج هناك إلى دليل ولا بيان، بل بمجرّد سماع الخطاب يعلم العبد أنه كلام الله تعالي.
وممن صعد به إلى سدرة المنتهى من قيل له حبيبي إنيتك هي هويتي وأنت عين هو وما هو إلاَّ أنا، حبيبي بساطتك تركيبي وكثرتك وحدتي، بل تركيبك بساطتي وجهلك درايتي.
أنا المراد بك أنا لك لا لي، أنت المراد بي، أنت لي لا لك.
حبيبي أنت نقطة عليها دائرة الوجود فكنت العابد منها والمعبود.
أنت النور أنت الطور أنت الحسنى والزين كالعين للإنسان والإنسان للعين:
أيا روح روح الروح والراحة الكبرى ..... ويا سلوة الأحزان للكبد الحرا
ويا منتهى الآمال يا غاية المنى ..... حديثك ما أحلاه عندي وما أمرى
ويا كعبة التحقيق يا قبلة الصفا ...... ويا عرفات الغيب يا طلعة الغرا
أقمناك أخلفناك في ملك ذاتنا ...... تصرف لك الدنيا جميعاً مع الأخرى
فلولاك ما كنا ولولاي لم تكن ..... فكنت وكنا والحقيقة لا تدرى
فإياك نعني بالمعزة والغنى ..... وإياك نعني بالفقير ولا فقرا
ومن المكلمين من ينادى بالغيوب فيشارك بالأخبار قبل وقوعها، فقد يكون ذلك بطريق السؤال منه وهم الاكثرون، وقد يكون ذلك بطريق الابتلاء من الحق سبحانه وتعالى.
ومن المكلمين من يطلب الكرامات فيكرمه الله بها فتكون دليلاً إذا رجع إلى محسوسه على صحة مقامه مع الله تعالى. ويكفي هذا القدر من ذكر المكلمين،فلنرجع إلى ما كنا بسبيله من تجليات الصفات.
ومنهم أي من أهل تجليات الصفات، من تجلّى الله عليه بالصفة الإرادية فكانت المخلوقات حسب إرادته، وذلك أنه لما تجلى الله تعالى عليه بصفة المتكلم أراد بأحدية ذلك المتكلم ما هو عليه من المخلوقات، فكانت الأشياء بإرادته. 
وكثير من الواصلين إلى هذا التجلي من رجع القهقرى، فأنكر من الحق ما يرى، وذلك أنه لما أشهده الحق أن الأشياء كائنة عن إرادته شهوداً عينياً في عالم الغيب الإلهي، فطلب العبد ذلك من نفسه في عالم شهادته، فلم يكن له ذلك لأن ذلك من خصائص الذاتيين، فأنكر ذلك المشهد الغيبي ورجع القهقرى وانكسرت زجاجة قلبه، فأنكر الحق بعد شهوده وفقده بعد وجوده.
ومنهم أي من أهل تجلّي الصفات، من تجلّى الله عليه بصفة القدرة، فتكون الأشياء بقدرته في العالم الغيبي، وكان على أنموذجه ما في العالم العيني، فإذا ارتقى فيه ومنه ظهر عليه ما يكتمه، وفي هذا التجلّي سمعت صلصلة الجرس فانحلّ تركيبي واضمحل رسمي وانمحى اسمي، فكنت لشدة ما لاقيت مثل الخرقة البالية المعلقة في الشجرة العالية تذهبها الرياح الشديدة شيئاً فشيئاً، لا أبصر شهوداً إلاَّ بروقاً ورعوداً أوسحاباً تمطر بالأنوار وبحاراً الموج بمن نار، واندكت السماء والأرض وأنا في ظلمات بعضها فوق بعض، فلم تزل القدرة تخترع بي ما هو الأقوى فالأقوى، وتخترق بي ما هو الأهوى فالأهوى إلى أن ضرب الجلال على سرادق المتعال.
وولج جمل الجمال من سمّ خياط الخيال، ففتق في المنظر الأعلى رتق إبهام اليد اليمنى، فحينئذ تكوَّنت الأشياء وزال العماء، ونودي أن استوى الفلك على الجودي، أيتها السماء والأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. وفي ذلك قال:
تصرّف في الزمان كما تريد ..... فمولاً أنت نحن له العبيد
وسل السيف في عنق الأعادي ..... فسيفك في العدا ذكر جديد
فهب ما شئت وامنع لا لبخل ..... ولكن كي تجود بما تريد
فمن أسعدته بالقرب يدنو ...... ومن أشقيته فهو البعيد
وملِّك من تريد من الأماني ...... وحقِّر من أردت فلا يسود
وأبرم ما عقدت فلا حلول ..... واعقد ما برمت هو العتيد
ولا تخش الفناء على قضاء ...... وكلّ تحت سيفك لا يميد
لك الملكوت ثم الملك ملك ..... لك الجبروت والملأ السعيد
لك العرش المجيد مكان عزّ ..... على الكرسي تبدي أو تعيد
ومن هذا التجلي ، تصرفات أهل الهمم.
ومن هذا التجلي عالم الخيال وما يتصور فيه من عجائب المخترعات. 
ومن هذا التجلي السحر . 
ومن هذا التجلي يتلوّن لأهل الجنة ما يشاؤون. 
ومن هذا التجلي عجائب السمسمة الباقية من طينة آدم التي ذكرها ابن العربي في كتابه.
ومن هذا التجلي المشي على الماء والطيران في الهواء وجعل الكثير قليلا  والقليل كثيرا، إلى غير ذلك من الخوارق.
فلا تعجب يا أخي، إنما الجميع شيء واحد اختلف باختلاف وجوهه، فسعد به السعيد وشقى به  الشقي الطريد، فاعلم وافهم. 
أشرت لك بهذه النبذة ورمزت في هذا اللغز أسراراً إن وقفت عليها اطلعت على سرّ القدر المحجوب المصون، فتقول حينئذ للشيء كن فيكون، ذلك الله الذي أمره بين الكاف والنون.
ومنهم من تجلى الله عليه بصفة الرحمانية، وذلك بعد أن ينصب له عرش الربوبية فيستولي عليه، ويوضع له كرسي الاقتدار تحت قدميه فتسري رحمته في الموجودات، وهو كرسي الذات قيّومي الصفات يتلو من الآيات: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. 
كل ذلك في عالم غيبه منزّهاً عن شكّه وريبه، معايناً لما في جيبه، وهذا هو الفرق بين الصفاتيين والذاتيين.
ومنهم من تجلى الله عليه بالألوهية، فيجمع التضاد ويعمّ البياض والسواد، ويشمل الأسافل والأعالي، ويحوي الأتراب واللآلئ، وعند ذلك يعقل الاسم والوصف و يجحد النشر واللف، و يري ان الامر { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ }. فطوي يمينه و شماله كتابه { وقيل بعدا للقوم الظالمين }.

واعلم أن النور هو الكتاب المسطور يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء كما قال الله تعالى عنه في كتابه إنه {يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا}.
واعلم أن لا سبيل أيضاً بدون ذلك وأنه صراط الله فهو له هدى ولغيره ضلال، فإذا خوطب بالأمرين واعتبر بالحكمتين وسمي بالاسمين غربت النجوم الزواهر وهي في أفلاكها مشرقة دوائر.
ومن خصائص هذا التجلي أن هذا العبد يصوّب آراء جميع الملل والنحل ويعلم أصل مأخذهم، ويعلم من سعد منهم كيف سعد، ومن شقي منهم كيف شقي وبما شقي. 
ومن أين دخل على أهل الملل داخل الضلال.
ومن خصائصه أيضاً أن يحطئ العبد جميع آراء جميع الملل حتى يحظى المسلمين والمؤمنين والمحسنين والعارفين، ولا يصوّب إلاَّ رأي المحققين لا غير.
ومن خصائص هذا التجلّي: أن العبد لا يمكنه النفي ولا يمكنه الإثبات، ولا يقول بالوصف ولا بالذات، ولا يلوي على الاسم ولا يحتاج إلى الرسم.
اجتمعت في هذا التجلي بالملائكة المهيمين، فرأيتهم على اختلاف مشاهدهم هائمين في محامدهم، فمن باهت حيَّره الجمال ومن ساكت ألجمه الجلال، ومن ناطق أطلقه الكمال، ومن غائب في هويته، ومن حاضر في إنيته، ومن فاقد للوجود، ومن واجد في شهود، ومن حائر في دهشته، ومن مدهش في حيرة، ومن ذائب في فناء، ومن آيب في بقاء، ومن ساجد في عدم محض، ومن عابد في وجود، ومن مستهلك في وجود، ومن مستغرق في شهود، ومن محترق في نار الأحدية، ومن مغترف في بحار الصمدية، ومن فاقد للأنس واجد للقدس، ومن واجد للأنس فاقد للقدس، يدهش الناظر أحوالهم وتهدي الحائر أقوالهم.
فملت إلى كملهم مشهداً وأرفعهم منشأً ومحتداً، ميل متطلع لا ميل حائرمتقنع.
فقلت له: أيها الكامل القريب والروح الأقدس الأريب، أخبرني عن حالك في مشهدك الحالك، وحدثني عن رسمك وصرح لي باسمك.
فأعرض إعراض من جنح عن التصريح، وأقبل إقبال المخبر الفصيح، ثم جثا على ركبتيه وانهمك في حيرته، فسألته عن الحال، فترجم ثم قال: لا تسأل عن الاسم فتنحصر في قيد الرسم، ولا تتركه رأساً فينطمس حقك انطماساً، ولا تلوي على الصفات فتنحجب عن ربك بالسموات، ولا تلوي عن الذات فتطلب العدم الرفات، النفي كفران والإثبات خسران وهذان بحران والحق {بينهما برزخ لا يبغيان }.
إن أثبتني أقمتني سواك وإن نفيتني حجبت عن حقيقة معناك ، وإن قلت إنك إني ، فإني فيك من فني، وإن قلت إنك غيري فقد فاتك كل معنى في خيري، وان تحيرت فقد تفقرت ، وان قلت بالعجز، فقد فاتك وصف العز، فإن ادعيت الكمال والغاية فأمرك في البداية لا في النهاية، وان تركت الجموع ، فقد قلت بالنوم والهجوع ، فهيهات فقد فاتك ما قد فات ، وإن قمت في ذاتك على عرش صفاتك فأين كمالك من كمالي وهل لك مالي،تحيّرت في حيرتي مما هي، فقد حار وهمي في وهمه،فلم أدر هذا التحيّر من تجاهل قلبي أو فهمه،فإن قلت جهلاً فكذب، وإن قلت علماً فهي مما هي، فلكن هو الأعلى ومسجدي هو الأقصى، وقد بورك حوله للوفود وعذب ماء منهمر للورود.
ومن سبح في بحري نظمته في نحري، ومن ركب جوادي أقطعته بلادي، ومن تعدّى حدّه وادعى ما لم يكن عنده مقته بدوام الحجاب، وقلت { لا تفتروا علي الله تعالي كذبا فيسحتكم بعذاب }. أنا الصراط المستقيم، أنا المعوج والقويم، أنا المحدث والقديم.
فلم تزل تتداعى كؤوس المنادمة في حضرة الوجود والمكالمة، إلى أن خفق خافق وأومض من سفح الأبيرق بارق، فسألته عن الركن المصون والنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون.
فقال: اسمع ما تقول هذه الأسماء في ذراها الأعلى الأسمى فإذا هي تناجي بأفصح لسان وأصرح بيان معطية ما عندها من غير كتمان.
فقلت: ماذا ؟ فقال: { الرحمن علم القرآن}.
فقلت للفقير: حدثني عني يا فلان { خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}
وقلت للمريد: أيها القديم الجديد خبّرني عني وارددني إليّ مني.
فقال: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}
فقال العليم بلسان حكيم: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}
فقلت: أيها الحكيم المعجب حدثني عن عنقاء مغرب، ودلّني على الكنز المصون بين الكاف والنون.
فقال: يكفيك مني ما تحدث القديم عني.
فقلت له: ذلك لا يغني، فقال: أزيدك؟ 
فقلت: زدني، فقال: إن المزيد قد أتاك عني بالخبر السديد والرأي الرشيد. 
فقلت: فهمه عليّ بعيد، فمن يا مولانا أنت؟
فقال: نفس العبيد ثم تلا {وهم لا يسمعون}. {أنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}.
فلم تزل تناجيني الحضرات وتبرز لي أبكارها الخيرات إلى أن هبّ نسيم السعادة، فحقق له علم السيادة، فشممت رائحة رائحة، وكانت بالذات للذات في الذات نافحة، فأخذتني عني وجذبتني مني جذبتها إلي مني، فانحلت قواي وأذابت جواي،وامتحق الكائن والبائن، والتحق الآيب والقاطن، وانطمس رسم الحي فلم يبق ميت ولا حي فعند ذلك مت موتة أبدية ، وسحقت سحقة سرمدية، فلا بعث بعدها و لا نشور ولا مغيب عندها ولا حضور فعندما فنى الحي وهلك من هلك في الدار، سأل نفسه: { لمن الملك اليوم } فقال: { لله الواحد القهار}.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية