ومنها حديث كَعْبٍ في صحيح البخاري أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: «يَا كَعْبُ» قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا» وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ: أَيِ الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «قُمْ فَاقْضِهِ». قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري وفي الحديث جواز رفع الصوت في المسجد وهو كذلك ما لم يتفاحش ، والمنقول عن مالك منعه في المسجد مطلقا، وعنه التفرقة بين رفع الصوت بالعلم والخير وما لا بدَّ منه فيجوز، وبين رفعه باللغط ونحوه فلا، قال المهلب : لو كان رفع الصوت في المسجد لا يجوز لما تركهما النبي ﷺ.
ولا شك أن الذكر من الخير، فرفع الصوت به في المساجد ما لم يستلزَم محذوراً شرعياً، جائز في مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك، وقال القاضي شمس الدين البساطي المالكي في شرح مختصر خليل بعد سوق أشياء يكره تعاطيها في المسجد ما نصه : "ويكره فيه أيضاً أن يرفع فيه الصوت إلاّ للتبليغ، ولو كان ذلك الشيء الذي يرفع صوته به مما يندب أو يباح في المسجد كإقراء العلم". وأقره (التتاي) في شرح مختصر خليل حيث قال : "وكره فيه رفع صوت بعلم أو غيره البِساطي إلا للتبليغ". فظهر أن الكراهة في هذه الرواية مقيدة أيضاً والله أعلم. وهذا التقييد يتعين فإنه الموافق للدليل فإنه لما استدل البخاري على جواز رفع الصوت بالعلم بحديث ابن عمرو فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار. قال الحافظ ابن حجر : وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلتحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر : "كان النبي ﷺ إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته". الحديث أخرجه مسلم. ولأحمد من حديث النعمان في معناه وزاد "حتى لو أن رجلاً بالسوق لسمعه".