آخر الأخبار

جاري التحميل ...

قضايا التصوف ومظاهر الصوفية

 قضايا التصوف ومظاهر الصوفية

إن التصوف ليس هو العقيدة بذاتها بل هو تلك الزيادات المندوبة في الجوانب التعبدية والإيمانية من نوافل وأخلاق وآداب غايتها الارتقاء في مقام (الإحسان)، فالطرق الصوفية اتبعها أناس من أهل السنة والجماعة، وغالباً ما يكونون تابعين لأحد المذاهب الأربعة المعروفة في المنهاج الإسلامي(الشافعية أو الحنابلة أو المالكية أو الحنفية وغيرها)، وليس لهم مذهب خارج هذه المذاهب المتفق عليها بين المسلمين، وعقيدتهم هي عقيدة أهل السنة الجماعة، وفي الجملة فهم في الأصول مسلمون وفي الفروع يتبعون المذاهب المتفق عليها، ويبقي الفرق فقط بمدرستهم الروحية والسلوكية أي نوعية الأذكار والأحزاب والأوراد التي يتعبدون االله بها لتغطية الجانب الروحي في حياتهم وهذا هو الجانب الذي يملأ المسلك الصوفي.

قد يوجد تصور خاطئ عند بعض الناس فيظنون أن هناك مذاهب صوفية أو عقائد صوفية خارج هذا الإطار والمنهج، وهذا تصور خاطئ. فمنذ بداية الإسلام والمسلم الصوفي المؤمن بكتاب االله ورسله موجود، ولكنه في جانب تربية النفس اتجه للمدارس الروحية الصوفية أو ما يسمي بمدراس الطرق الصوفية، وأصحاب الطرق الصوفية علي اختلاف مدارسهم كالأئمة: الرفاعي والنقشبندي والدسوقي والجيلاني الشاذلي والجشتي والتيجاني وآل باعلوي الحضارمة وغيرهم، هؤلاء كانوا علماء لهم مؤلفات في بقية العلوم الإسلامية كالفقه والعقيدة والتفسير وكانت لهم تجارب روحية أو تربية روحية لأنفسهم في كيفية التقرب من االله سبحانه.

وهناك زيادة في الجانب الروحي (من النوافل)يفرضونه علي أنفسهم تطوعاً على ما فرضه االله على كل مسلم في تزكية النفس وتطهيرها باعتبار أن النفس البشرية لها أمراض كالكبر والعجب والرياء والنفاق وسوء الظن، وهو يريد أن يخُلص نفسه منها وأن يكون محافظاً علي التهجد وقيام الليل وصلاة الضحى حريصاً علي ذكر االله تعالى كثيراً، ولا يكتفي بما يقام في المسجد ثم ينسى االله إلى أن يأتي الفرض الثاني، أي أن الجانب التعبدي عنده فيه زيادة، وغالباً ما يكون زاهداً أكثر منه مادياً، لكن الإنسان لا يستغنى عن الدنيا حتى لا يعيش على صدقات الناس، قد كان الأولون يقولون في الدنيا: (اللهم أجعلها في يدي ولا تجعلها في قلبي) عملاً بالأثر ﴿اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا،ً وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً﴾.

إن النبي ﷺ وآله وأصحابه رضوان االله عليهم كانوا يفعلونها، كالصوفية وغيرهم وبالدليل الأول أن النبي ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتورَّم قدماه وكان لا يبقى في بيته شيء من المال فيتصدق به، وكان يتخفَّف من الدنيا، وتوفي ودرعه مرهونة عند يهودي، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديداً على نفسه، فكان في ثوبه عدد من الرقع وهكذا كان ثوب علي كرم االله وجهه وعدد من الصحابة وأهل الصُ فة كان عملهم إما جهادٌ في سبيل االله وإما التعبد والذكر والإقامة في المسجد، ومن هذا يمكن القول أن الصوفية لم يخرجوا عن الشرع قيد أنملة، وإنما حدث شطط عند بعض الأتباع وكل علم من العلوم الشرعية دخله شيء من الشطط من أتباعه، والشطط هو الخروج عن الجادة، وهذه الزيادة التي قد تحدث من الأتباع والمريدين لا نعتبرها حجة على المؤسسين للطرق الصوفية.

مع تعدد الطرق الصوفية ذكر الإمام أحمد الرفاعي في كتابه (البرهان المؤيد) قوله: "اتبع ولا تبدع" ، وقال: "إن كل طريقة خالفت الشريعة فهي زندقة"، وكذلك قول الجنيد وهو من كبار أئمة الطريق: "إن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة"، ويقول البعض: "لو طار أمامك رجل في الهواء أو سار على الماء ثم رأيته غير ملتزم بكتاب االله وسنة رسوله فقل إنه مستدرج أو أنه ساحر".

إن التصوف فيه مدرستان: مدرسة سلوكية ملتزمة بالكتاب والسنة، وهي التي تهدف إلى تصحيح سلوك المسلم بحسب ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وتدله على كيفية التقرب إلى االله مثل مدرسة الإمام الغزالي والرفاعي والجيلاني والشاذلي والدسوقي والنقشبندي والتي يتبعها غالبية المسلمين في العالم الإسلامي كله وتستقطبهم دون غيرها، وهذه الطرق هي التي تلتزم بالكتاب والسنة الحقة، والتي تسمى (بالتصوف الشرعي)
الذي يتسم بالسلوك القويم إلى االله وهذه المدارس هي التي نبحث فيها من خلال هذه الورقات.

وهناك قسم ثان من طرق التصوف وهي التي أُلحقت بالتصوف، وهي الطرق التي تُطلق عليها المدارس الفلسفية أو "فلسفة التصوف" أو "مدارس الاستشراقات" أو "مدارس المعارف والفيوضات"، وهذه المدارس لها رموز كبار أمثال: الشيخ محي الدين بن عربي، والشيخ عبد الكريم الجيلي والحلاج.. وغيرهم ممن اشتهروا بفلسفة التصوف، ولا يوجد في كتب التصوف ما يعفي من فريضة الجهاد بل أن قدوتهم أهل الصفة، كانوا
رهبان الليل وفرسان النهار، والإنسان مادام يريد وجه االله فليس هناك مكان أفضل من ميدان الشهادة للتقرب من االله سبحانه وتعالى.

بعض الطرق ترى أن الإنسان في بداية الطريق يحتاج إلى خلوة مع نفسه لأن هذا الإنسانسواء ً كان غافلاً وجاهلاً فيطلبون منه اعتزال الناس أسبوعاً أو أسبوعين أو ثلاثة لمراجعة نفسه ومحاسبتها واعتزال رفقاء السوء وتغيير البيئة ولابد له من أن يجلس خالياً بنفسه لي ُكثر من الاستغفار والذكر والصلاة لأداء الفوائت، وهذه خلوة يأمر بها بعض الشيوخ لمن كان له سابقة في الابتعاد عن الشرع وخاصة من كان مبتلى بالكبائر من
الذنوب، فيطلبون منه نوعاً من الحمية الدينية ونوعًا من الخلوة للمراجعة والمحاسبة على ما فات، والتفكير في حقوق العباد وإرجاعها لأصحابها وقد تصل هذه الفترة إلى شهر اقتداء ًبالنبي ﷺ عندما كان يخلو بنفسه في غار حراء فكان يتعبد الله الليالي ذوات العدد فهذه فترة للنقاء يُغيّرُ فيها المرء سلوكه.

إن التصوف هو الجانب الروحي في الإسلام، فمحاربته وإنكاره تجفيف للجوانب والمنابع الروحية في الشريعة الإسلامية، وهو علم من العلوم، ومسلك من المسالك أصابه ما أصاب غيره من العلوم من الشطحات، ويبقى أن المريدين أيضًا بشر يعتريهم ما يعتري غيرهم، ولكن هذا لا يدعونا أن نبخس الناس أشياءهم أو حقوقهم، ولا يجوز أن ننكر دور الصوفية والتصوف في نشر الإسلام في مناطق كثيرة كأفريقيا وشرق آسيا وفي بلاد الغرب، وأحب أن أبين أن التصوف ليس عقيدة، بل هو استزاده في الجانب التعبدي
والروحي في العلاقة مع االله، والرجل الصوفي هو مؤمن متبع للكتاب والسنة عقيدته عقيدة أهل السنة والجماعة يتعبد االله على أحد المذاهب الأربعة، ويزيد عن غيره أنه يفرض علي نفسه (زيادة تعبد وأوراد وطاعات) في(مقام الإحسان)، وكما جاء في الحديث القدسي: (وما يزال عبدي يتقرَّب إليَ بالنوافل حتى أحبه) كما سيلي بيانه لا أكثر ولا أقل، والتصوف ليس له مذهب يزيد عن مذاهب المسلمين، بل يزيد علي نفسه في
التكاليف ليتقرب إلى االله عز وجل،وبناءًعلى ذلك نرى أن كل ما يخالف الإسلام في شيء فلا تصح نسبته إلى الصوفية.

لقد أدَّت الطرق الصوفية المنتشرة بالجزائر وبإقليم توات على الخصوص دورًا هامًا على مختلف الأصعدة، حيث كان لها أثر بالغ الأهمية في الحياة الروحية والاجتماعية لسكان توات وغيرهم من الشعوب الإفريقية التي وصلها إشعاع الحضارة الإسلامية على أيدي مشايخ الطرق الصوفية، ذلك أن انتشار الإسلام في هذه المنطقة ما هو إلاّ ذلك الهدف النبيل الذي سعت الطرق الصوفية إليه خاصة الشاذلية والخلوتية... إلى تحقيقه، ويتصل هذا بجهدهم الدؤوب، وجهادهم المستميت في الذود عن حياضه.

كما نّها عمدت إلى محاربة البدع والأفكار المجوسيةواليهودية التي بدأت بنشر بذورها في أوساط المجتمع الإسلامي، ولم يسلم منها إقليم توات خاصة بتمنطيط؛ حيث تصدى لها في بادئ أمرها الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي القادري الطريقة، انطلاقًا من زاويته التي جمعت بين مهمتين؛ المهمة التعليمية والحربية، ومهمة الحرص على الأخوة القائمة على نظام إسلامي لبناء مجتمع موحـد، ولم يتأتى له ذلك إلاّ بالمعرفة الحقيقية لمضامين تلك الطرق الصوفية، وبالتالي مكنته هذه المعرفة الروحية من الممارسة الفعلية لها في الواقع الاجتماعي المعاش.

وفيما يتعلق بإقليم توات فقد أسهمت الطرق الصوفية في تكريس سلطة الشرفاء والمرابطين بما لهم من نفوذ مادي ومعنوي ومكانة اجتماعية راقية. وقد كرست الطرق الصوفية والزوايا ظاهرة زيارة أضرحة الأولياء والصالحين، والتي طغى عليها طابع الفرجة والفولكلور أكثر من طابع العبادة والتقرب إلى االله، بل أن بعض أصحاب الزوايا أنفسهم يرون بأن كل المظاهر الفولكلورية من رقص وبارود وطبل ليست مما سنَّه شيوخ
الزوايا، وإنما نشاط أوصى به القياد خلال الحقبة الاستعمارية ترسيخً ا لسمات ما سمته الكتابات الاستعمارية الإسلام الجزائري.

ومما يلاحظ عن ظاهرة السبوع بتيميمون أن تصارع الألوية أو تعانقها في حفرة العلمة ترتبط بدور الشيخ سيدي بلقاسم بلحوسين في وضع حد للصراع الذي كان دائرً ا في المنطقة، فتلك الزيارة إذن تشيد بذلك الدور والعلاقة الوحيدة التي تربطها بالمولد النبوي الشريف، هي تزامنها مع سابع يوم لمولده ، فأصبح السبوع عيد ميلاد مزدوج في الواقع لمولد نبي الإسلام ومولد فعل مؤسس قام به الولي الصالح سيدي الحاج بلقاسم الذي استعاد السلام وأصلح بين فصيلين متنافسين بثت انشقاقاتهما الفوضى والفرقة في كل أنحاء قورارة.
إن تأثير الطرق الصوفية لم يقتصر على الجانب العلمي والديني رغم أن مهمتها في الأصل زرع الأبعاد الروحية والإيمانية، لأن الدين الإسلامي لم يكون يومً ا معزولاً عن أي جانب من جوانب الحياة فالطريقة الصوفية بدورها لعبت أدواراًاجتماعية واقتصادية عديدة لأن شيوخها لم يكونوا بمعزل عن مجتمعاتهم ولا عن مشاكلهم، فكان من أهم أدوارها الاجتماعية:

- عملت الطرق على إزالة الفوارق الاجتماعية بانصهار مختلف الطبقات، فالكل إخوان، لا فرق بين الفقير والغني، العالم والأمي، الشريف وغير الشريف.

- انتصاب الشيوخ والمقدمين لحل النزاعات ونبذ الخلافات والبتِّ في القضايا الشائكة بين
الناس.خاصة وأن المجتتمعات الصحراوية لم تكن تحت نفوذ سلطة مركزية، وكانت هذه المجتتمعات الصحراوية عبارة عن قبائل وعروش، وفي حالة نشوب الخلافات كان لابد من وجود من يحول دون تطورها ووصولها لحد القتل، لأن الشيوخ والمقدمون كانوا محل احترام من طرف المجتمع لذا كانت كلمتهم مسموعة. وفي هذا الإطار يبرز بشكل جلي الدور الاجتماعي للطرق الصوفية.

- كانت الطريقة الصوفية تسعى دوماً إلى تشجيع وتنظيم التعاون بين أفراد المجتمع بشكل دوري فيما يعرف في المنطقة بنظام التويزة، حيث يتعاون الناس فيها بشكل طوعي على الأعمال الكبيرة مثل الاهتمام بالفقارة ومحاربة العقارب وتنظيف المساجد والأماكن العامة، واستقبال الضيوف والزوار عند الزيارات الموسمية، والتناوب في خدمة الفقراء وعابري السبيل، وتوفير الأمن وحراسة الأملاك العامة والخاصة وحماية القوافل.
ولعل الركود الشامل الذي أصاب الطرق الصوفية منذ مطلع القرن العشرين وعرقل من استمرارها في الجزائر عموماً وليس في توات فقط قد يعود إلى عوامل عديدة لعل أهمها:

- العامل السياسي: ففي مرحلة الاستعمار الفرنسي ونظراً لدورها الريادي في المقاومة العسكرية والثقافية في مواجهة المد الاستعماري في كامل الجزائر وحتى في إفريقية جنوب الصحراء قاطبة، فإن فرنسا عالت جاهدة على تقويض هذه الجمعيات والمؤسسات الدينية؛ إما بالقضاء عليها كليةً ونفي واعتقال أهم روادها وزعمائها وهو ما حدث للأمير عبد القادر والشيخ الحداد والشيخ بن ناصر بن شهرة وغيرهم، وإما بتمييع أدوارها وتدجين شيوخها ومقدميها، كما زاد من عزلتها الاجتماعية والسياسية تزايد نشاط النخب
السياسية (تيارات الحركة الوطنية، واندلاع الثورة الجزائرية بقيادات ليس لها ولاء مباشر أو انتماء عضوي ملزم مع الطرق الصوفية بخلاف قيادات المقاومة الشعبية في السابق)، والنخب الثقافية والدينية )جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مثلاً( التي أضحت لها قوة في التأثير والتأطير الاجتماعي والسياسي لمختلف شرائح المجتمع.
كما أن الاضطرابات السياسية التي شهدتها الجزائر في الفترة التي تلت الاستقلال وتأسيس الدولة الوطنية الحديثة أين غابت الطرق الصوفية عن مسرح الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية المؤثرة يضاف إليها كما ذكرنا سابقاً الاضطرابات التي حدثت في الفترة الممتدة خلال عشريتي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، والظروف الأمنية المتذبذبة الني عرفتها الجزائر حيث شلت أدوار جل المؤسسات الاجتماعية
والدينية، بما فيها الطرق الصوفية كانت من بين المؤسسات الدينية التي مسّ تها الظروف الأمنية، فنقُ صَ بذلك عدد أتباعها وطلابها وحتى زوارها ومريديها، كما أن ميول بعض الأفراد من المجتمع الجزائري للدخول في السياسة وابتعادهم وتخليهم عن الطريقة الصوفية التي لم تواكب متغيرات الواقع الجديد، قلَّل من نشاطها، بحيث عرفت الركود في شتى مجالاتها.

- العامل الاجتماعي: قلة اهتمام الأفراد بظاهرة الطريقة والتصوف، فهناك من ينظر إليها على أنّها ظاهرة تاريخية فقط ولا تتلائم وتتزامن مع الوقت الحاضر، وأنها لا تخدم المجتمع في حاضره ومستقبله وهناك من ينتقدها ويعارضها تبعاً لأسباب دينية أو إيديولوجية.

- العامل الاقتصادي: إن المدخول المتوسط أو الضئيل للأفراد أو المريدين والأحباب جعل الطريقة تركد وتقلل من نشاطاتها الاقتصادية والاجتماعية، فقلة المداخيل والإعانات من طرف المريدين والأتباع أدى إلى ضآلة مساهماتها وأنشطتها التعليمية والثقافية والدينية وهو ما انعكس على دورها الاجتماعي في البيئة التي تحيط بها.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية