منها : أنه لا يجوز التوسل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والاستشفاع بهم وزيارة قبورهم، والحلف بغير الله تعالى إلى غير ذلك، فإن هذه كلها شرك أكبر وفعل المشركين، وكل من فعلها أو رضي بها فهو مشرك شركاً أكبر، ولهذا حكم على عوام المؤمنين والعلماء العاملين من أمة سيد الأنبياء والمرسلين بالشرك الأكبر، معاذ الله، وحاشاهم عن ذلك. ما أجرأَه على هذا القول ولا يخاف من هذا الهول، وهذا كله واقع من أصل صحيح، وهو وجوب التوحيد الذي ألقاه إليه الشيطان المَريد نتج في نظره فاسداً، أيَّ فاسد فضلَّ وأضلَّ، لو ما تدركه العناية بالتوبة والرجوع عما هو فيه بمحض الفضل.
فانظروا يا إخوان ما أدّى إليه الغلو في التوحيد حتى أوصلَهُ إلى الحكم بالشرك الأكبر في حق أهل التوحيد وأخرجه عن الحدِّ فانْعكسَ إلى الضد، قال تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
قولك : (فنحن ندعو إلى العمل بالقرآن العظيم والذكر الحكيم، الذي فيه كفاية لمن اعتبر، وتَدبَّر بعين بصيرته ونظر وفكَّرَ فإنه حجة الله) نعم فيه كفاية، قال تعالى : {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال الشيخ أبو مدين : (لا يكون المُريد مثريداً حتى يجد في القرآن كل ما يُريد) وهو حجَّة الله عليك وعلى إضرابك، سبحان الذي أنطقك بهذا "اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ" فإنك لو تدبَّرتَ فيه بعين بصيرتك واعتبرت به، لَما كنتَ تحكم على الأمة المحمديَّة بالشرك الأكبر من غير برهان، وليس هذا إلاَّ شقاوة وخسران وحرمان ألقاه إليك الشيطان، وليس هذا في القرآن.
قولك : {وسماه الوسيلة عناداً وبغياً}. أقول : هذا مناف لِما يؤخذ من القرآن ويومئ إليه، فصار القرآن حجَّةً عليك لا لَك، وفي القرآن كفاية، قال تعالى في سورة الشعراء في قصة نوح صلى الله عليه وسلم : {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}أنهم عملوه إخلاصاً أو طمعاً في طعمة، وما عليَّ إلاّ اعتبار الظاهر، إن حسابهم إلاّ على ربِّي، وما حسابهم على بواطنهم إلّا على الله، فإنه المُطَّلعُ عليها، لو تشعرون لعلمتم ذلك لكنكم تجهلون، وقال تعالى : {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَمِّي فسمعت عبد الله بن أبي بن سَلُولَ يَقُولُ: ” لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا”. وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَكَذَّبَنِي. فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ، فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{إِذَا جَاۤءَكَ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ قَالُوا۟ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ لَكَـٰذِبُونَ، إِلَى قَوْلِهِ تعالى : هُمُ الَّذينَ يَقولونَ لا تُنفِقوا عَلى مَن عِندَ رَسولِ اللَّهِ حَتّى يَنفَضّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَلكِنَّ المُنافِقينَ لا يَفقَهونَ * يَقولونَ لَئِن رَجَعنا إِلَى المَدينَةِ لَيُخرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسولِهِ وَلِلمُؤمِنينَ وَلكِنَّ المُنافِقينَ لا يَعلَمون}. فَأَرْسَلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْد).
فتأمّل بعين بصيرتك وفكرك كيف صدّقهم ﷺ وعاملهم معاملة المسلمين مع أنهم كانوا منافقين، وما قال لهم أنَّ هذا بغي وعناد، وأنتم مشركون برب العباد ، وكذّب زيداً وقعد في بيته حزينا مع أنه كان من المؤمنين إلى أن نزل عليه الوحي من ربِّ العالمين بتكذيب المنافقين وتصديق زيد الحزين فتنبَّه.