شاع عند الناس النظر إلى التصوف بوصفه تجربة ذاتيّة في أصله وجوهره، فهو انكفاء على الذّات واستبطان للنّفس وهروب من الواقع وفرار من النّاس، واستقرّت في أذهانهم صورة سلبية عن التصوف موروثة عن عهود الانحطاط، قوامها جملة من البدع الاعتقادية والممارسات الشركيّة التي تتجلّى في تقديس الأولياء والتمسّح بقبورهم والاعتقاد في قدراتهم الخارقة على تحقيق الكرامات ونيل الأمنيات والتقرب بهم إلى الله زلفى، سواء منهم الأحياء والأموات، فيكثر الالتجاء إليهم في الملمّات، وزيارتهم في المناسبات وتُقام لهم الولائم والمهرجانات. وشاع عن الصوفية على وجه العموم أنهم قوم قعدوا عن الكسب والاحتراف، وركنوا إلى التواكل، واستمرؤوا حياة الكسل والخمول، ولم يكتفوا بأن يكونوا عالة على المجتمع، بل أسهموا في تخلّفه بما أشاعوه فيه من بدع اعتقادية وانحرافات سلوكية، كانت نتاجًا لطغيان الدرْوشة والطرُقيّة، وما يمكن أن نسميه بـ«التصوّف الشعبي» في البلاد الإسلامية على مدى قرون متطاولة.
فإذا كان ذلك كذلك فمن المفارقة أن يكون حديث عن دور للتصوف في حياتنا المعاصرة، وعن صلة للتصوف بالمجتمع في أيامنا والحال أنّ همّ المتصوّف مُنْجَمِعٌ في ذاته وهمّته متّجهة إلى خالقه، فكيف يُتَصوّر التفاته إلى المجتمع وانغماسه في همومه وعلاجه لأمراضه؟ وهل يمكن للتصوف أن يواجه تحدّيات الحياة المعاصرة وأن يكون له دور في المجتمع؟
أولًا- في الحاجة إلى الاهتمام بالتصوّف
التصوف بحر خِضَمّ لا ساحل له، لغزارة التآليف فيه، وتعدّد مدارسه، وتنوّع روافده، وتراكم معارفه، وتشعّب موارده ومصادره، وكثرة أعلامه، واختلاف أطواره، وثراء تجاربه وأنظاره، وطرافة أفكاره، ولطافة أسراره، وبُعْد غَوْرِه، واتّساع مداه. إنّه منبع درس لا ينضب، ومنجم بحث لا ينفد. والظاهرة الصوفية جديرة بالاهتمام أيضًا لما نلاحظه من انتعاش التصوّف في هذه الأيام، وتعاظم الإقبال عليه وانتشاره في أقطار الأرض، وامتداد الاهتمام به إلى غير مريديه من المسلمين وغير المسلمين، رغم ما يشهده العالم من ثورة معلوماتية وتكنولوجية وطغيان للقيم المادية والنفعية وتهافت على طلب اللذة والسلطة والمال. يشهد لذلك الكمّ الهائل من الدراسات بشتّى اللغات وقد اتّخذت من التصوّف موضوعًا أثيرًا لديها مفضّلًا عندها، ممّا يؤذن بتعاظم الاهتمام بهذا الميدان.
ولا نحسب هذا الإقبال المتزايد من جانبهم على التصوّف ورموزه يُعزى إلى مجرّد الفضول المعرفي، استطرافًا للمختلف، وطلبًا للمغاير، وخروجًا عن السائد، وإن كان النص الصوفي يستجيب –دون شك– لهذه الحاجة؛ لأنّ له سحرًا يأخذ بالألباب، وجمالًا يستهوي النفوس، ويغري بالبحث عن درّه المكنون، بل نحن أميل إلى الاعتقاد بأنّ التصوّف يستجيب لحاجة في قرارة النفس الإنسانية تجد إشباعها في روحانيته العميقة التي بفضلها اكتسب صبغة كونية، فلا عجب أن يقبل كثير من الناس على التصوّف يتدبّرون قيمه الروحية، ويبحثون فيه عن رؤية للكون والحياة والإنسان مغايرة للسائد، قوامها الرجوع إلى الأغوار البعيدة للنفس والينابيع العميقة للوجدان الذي يجتذبه الحبّ الإلهي؛ إذ يعلن الصوفي بكلّ وثوق إمكان قيام علاقة شخصية مع الله ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾(1)، وأنّ تلك العلاقة تسمو على ما سواها من علائق الدنيا ومُتَعها ومباهجها. ولعلّ المستشرقين خصوصًا والغربيين عمومًا وجدوا في التصوّف بسموّه وتعاليه وقيمه الأخلاقية والروحية علاجًا لأدواء الحياة المعاصرة، لما فيه من روحانية عالية وأبعاد إنسانية سامية وقيم أخلاقية راقية تؤمن بالاختلاف والتعدد وتؤصِّله عقيدةً وسلوكًا، وتدعو إلى المحبة بين الناس على اختلاف ألوانهم وأوطانهم وأديانهم… فلذلك يمّموا وجوههم شطرَ التراثِ الصوفي يتدبّرون نصوصه ويدرسون آثاره بكلّ شغف. وهذا من الدواعي الموضوعية التي تحملنا على الاهتمام بهذا الميدان، وتوقظ فينا الشعور بالمسؤولية الفكرية والعلمية، فإذا كان الأعاجم قد اهتمّوا بتراثنا الصوفي هذا الاهتمام المتعاظم، فمن باب أولى وأحرى أن يشتغل به أهله قبل غيرهم، كيف لا وهو من مقوّمات هويّتهم الحضارية، ضارب بجذوره في أعماق تاريخهم، موصول بمشاغل عصرهم في آن؟
ثانيًا- في الحاجة إلى إنسانية التصوف
الحقّ أن التجربة الصوفية قد تجاوزت في أبعادها الإنسانية فكرة القبول بالآخر والتعايش معه والتسامح مع اختلافه في الملّة إلى محبته ورحمته والشفقة عليه والإحسان إليه ونفي أي شعور بالتفوق عليه. كيف لا وقد عدَّ الصوفية المحبّة روح الكون، ورأى «مولانا» جلال الدين الرومي (تـ 673هـ/ 1273م) الطريقَ الصوفيّ كلّه مضمرًا في المحبّة، وأنّ الرّوح التي لـيـس شعـارها المحبـّة من الخير ألّا توجد. ودعا إلى أن يكون المرء ثَـمِـلًا بالعـشـق لأنّ الوجـود كلَّـُه عِـشْـق. ويمكن أن نتخذ من ابن عربي (تـ 638هـ/ 1240م) الملقّب بـ«الشيخ الأكبر» مثالًا على ما بلغه البعد الإنساني في التصوف من سموّ، ففضلًا عن منزلة الإنسان في ميتافيزيقا ابن عربي بوصفه كونًا جامعًا صغيرًا يحوي الكون الجامع الأكبر وبرزخًا بين الله والعالم، فإنّ فكر ابن عربي لا يخلو من إشارات مهمة إلى القيمة الإنسانية عمومًا وكرامة الإنسان عند الله، وفيه دعوة حارّة إلى الإبقاء على النوع الإنساني وصونه، وتحذيرًا قويًّا ضد هدم النشأة الإنسانية؛ لأنّ في هدمها قضاءً على أكمل صورة لله في الوجود(2). فهو يقول: «واعلم أنّ الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة في الله»(3). وقد لاحظ أن الشفقة تعمّ الناس جميعًا ولا تخص المؤمنين منهم، فنطاق الرعاية ومجال السماحة يتّسعان ليشملا الجنس البشري كلّه، بغضّ النظر عن الدين والعقيدة. وقال: «ما دام الإنسان حيًّا يُرْجَى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له، ومن سعى في هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خلق له»(4).
ومن شأن مثل هذه التصورات أن تسهم في تحقيق التعايش السلمي بين الناس وتشجع على التعارف والتحاور بينهم مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم، وتُبعِدهم من كل منازع التعصب الديني المفضي إلى التباغض والاحتراب.
ثالثًا- في الحاجة إلى أخلاقيّة التصوف
إن في التصوف ما يمكن أن يساعد على تقديم العلاج الشافي لأدواء العصر الحاضر وكل العصور –طبعًا التصوف في جوهره النقيّ الصافي- فإذا اتفقنا على أن أزمة عصرنا الحاضر أزمة أخلاقية في صميمها، وعلمنا أنّ التصوف أخلاق أو لا يكون، أدركنا عظيم دور التصوف في إصلاح واقعنا المأزوم، وإذا كانت رسالة النبي الأكرم تتمثل في إتمام مكارم الأخلاق، فإنّ التصوف وفق ذلك هو روح الإسلام. كيف لا والأخلاق هي دعامة التصوف ومناط اهتمام المتصوفة، بل لقد لخصوا الطريق الصوفي في «التخلّي» و«التحلّي». فالتصوف استقامة في السّلوك قبل كل شيء، ولا تحصل تلك الاستقامة إلا بالتخلّي عن مرذول الصفات وقبيح الأفعال والتحلّي بحميدها، ولا يبلغ الصوفي الكمال في السلوك إلا إذا حسنت أخلاقه وتميّز بالصلاح والفضل والتُّقى والورع. ومقياس التفاضل الأخلاقي قولًا وفعلًا هو المثل الأعلى النبوي. قال الجنيد شيخ الطائفة (تـ 298هـ/ 910م): «الطرق كلّها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول وتبع ولزم طريقته، فإنّ طرق الخيرات كلّها مفتوحة عليه»(5).
فالأخلاق هي جوهر التصوّف عندهم عِلمًا وعملًا، يلخص ذلك قول ابن قيم الجوزية (تـ 751هـ/ 1350م): «واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم: أنّ التصوّف هو الخلق»(6). ولذلك رأى الصوفيةُ النفسَ منبتَ الشرور ومنبعَ الأخلاقِ الدنيئة والأفعال الذميمة، أي المعاصي وسيّئ العادات ومرذول الصفات مثل الكِبْر والحسد والبخل والغضب والحقد والطمع وأمثالها، وأوجبوا ترويضها بالتوبة لترك المعصية وبالمجاهدة لإزالة الأوصاف الرديئة. فقالوا: «التصوّف خلُق فمن زاد عليك في الخلُق فقد زاد عليك في الصفاء»(7) وقالوا: «التصوف هو الدخول في كلّ خلُق سنيّ والخروج من كل خلُق دنيّ»(٨).
وممّا يدلّ على مركزية الأخلاق في التصوف أنّ سبيل الوصول إلى الله عند القوم- كما يقول الغزالي- «هو العلم بكيفيّة تطهير القلب من الخبائث والمكدّرات بالكفّ عن الشهوات والاقتداء بالأنبياء صلوات الله عليهم في جميع أحوالهم. فبقدْر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطْر الحق تتلألأ فيه حقائق الوجود»(9) وهذه هي المجاهدة، وهي أخلاقيّة في صميمها.
ولذلك وجدنا أعلام الصوفية قد أشبعوا الجانب الأخلاقي بحثًا ودرسًا وتأليفًا وأفردوا له أبوابًا وفصولًا وكتبًا، وانصبّ اهتمام مؤلّفيهم منذ وقت مبكّر على التأليف في عيوب النفس وأهوائها كالكبر والعُجْب والرياء والتصنّع والطمع والحرص، وفي محامد أخلاقها كالإخلاص والتواضع والجود والإيثار وما إليها، وصار ذلك سمة مميّزة للتصوف. وإذا بنا أمام ثروة أخلاقيّة حقيقيّة توغّلت في بواطن النفس الإنسانيّة وعالجت عيوبها الأخلاقيّة وأمراضها النفسيّة. فلا نُبْعِد إن زعمنا أنّ المتصوّفة أسّسوا «فقه الباطن» مثلما أسّس الفقهاء «فقه الظاهر». فكان فقه المتصوفة منشغلًا بأخلاق النفس ووسائل تربيتها، وهو بذلك يجري موازيًا لأحكام فقه الجوارح ومكمّلًا لها. فما أحوجنا اليوم أفرادًا وجماعات وحكامًا ومحكومين إلى أن نسلك مسلك الصوفية في تهذيب النفس وتزكيتها وترقيتها بمكارم الأخلاق ومحامد الشيم.
وما من شك في أن فيما ذكرنا آنفًا من قيم التصوف وأخلاقه ما يَقِي من مخاطر التعصب ونوازع الغلو والتطرّف، وما يصحب ذلك من آفات العنف والإرهاب، وما يخلفه من فساد في الأرض عريض، وإذا كان الشباب ينأى عن التصوف متأثرًا بما شاع عند النّاس من أنه انكفاء على الذّات وهروب من الواقع وفرار من النّاس واستبطان للنّفس، أو أنه عنوان جهل وتخلّف ودرْوشة، فإن تصحيح هذا التصور من شأنه –في تقديرنا- أن يغري بالإقبال عليه والانتباه إلى ما فيه من ثروة أخلاقية وقيميّة من شأنها إذا آمن بها الشباب خاصة والناس عامة وعملوا بها أن تصلح من شأنهم وتحسن أحوالهم وترقى به إلى الأسمى والأقوم. ويمكن أن نمثل لذلك بنماذج من سلوك الصوفية بعد أن تمثلنا ببعض أفكارهم وعقائدهم.
رابعًا- في الحاجة إلى النماذج السلوكية الحسنة
لا شكّ في أنّ التصوّف في أصله وجوهره تجربة ذاتيّة، ولذلك شاع عند النّاس أنّه انكفاء على الذّات واستبطان للنّفس وهروب من الواقع وفرار من النّاس، ولكن يكفي أن نتصفح كتب الطبقات الصوفية لكي نجدها تنهض بصنع النماذج السلوكيّة الحسنة وإشهارها وإظهارها بمظهر القدوة الأخلاقيّة والقيميّة والسلوكيّة المشدودة إلى المُثُل العليا من جهة، المجسّمة في أرض الواقع من جهة أخرى. فقد نهض الخطاب الصوفي في كتب الطبقات والمناقب الصوفية بوظيفة تحرير الفضائل المميّزة لهؤلاء الأعلام وتدوين شمائلهم وتقييد محاسن أخبارهم تشكيلًا للنموذج الأسمى. فما كان للأنموذج القيمي والسلوكي الأمثل أن يتمحّض للوجود إلا من خلالهم بوصفهم أهل الصلاح والفضل ومحلّ الأسوة الحسنة.
وفي ذلك تعبير عن شعورهم بالمسؤوليّة عن إصلاح مجتمعهم، وذلك بعطف القلوب على القيم، وتجسيم نماذج الكمال في الرجال، فذلك مظهر من مظاهر المسؤوليّة الاجتماعيّة الأخلاقيّة والقيميّة، ابتغاء الرقيّ به إلى مستوى أخلاقيّ رفيع.
ولذلك ألفينا النماذج الصوفيّة التي رسمتها لنا كتب الطبقات غير منعزلة عن مجتمعها؛ إذ يكاد يكون تدخّلها في سائر ميادين الحياة الاجتماعيّة شاملًا، ولها فيه تأثير ينزع دومًا إلى تجسيم ذلك المثل الأعلى الإسلامي، ففي علاقة المتصوّف بإخوانه من المتصوّفة يتميّز سلوكه بحسن المعاشرة وترك الخصومة وملازمة الإيثار والمعاونة في أمر الدنيا والدين. وما الإيثار إلا مظهر مجسّم لتناهي الشعور بالمسؤوليّة الغيريّة إذ هو تفضيل الآخر على الذات لا لمصلحة مرغوبة، وإنّما طلبًا للأجر والمثوبة.
وفي علاقة المتصوّف بالناس يبدو رحيمًا بهم، ليّن العريكة في التعامل معهم، مشفقًا عليهم، متسامحًا معهم، متحلّيًا بخصلة نكران الذات، وما أكثر الأخبار التي تروى عن مساعدة الصوفي للفقراء، ونصرته للضعفاء، فالخلق هم غاية سعي الصوفي، وفناؤه في الله يوازيه فناؤه في الخلق.
ومن أَوْعَبِ التقسيمات لعلاقات الصوفي ما ذكره ذو النون المصري (تـ 245هـ/ 859م)، فهو «عون للغريب، أب لليتيم، بَعْلٌ للأرملة، حَفِيٌّ بأهل المسكنة، مَرْجُوٌّ لكلّ كربة»، وهو في معاملته اليوميّة مع الناس هشّاش بشّاش. فقوله «بعل للأرملة» أنّه يغنيها عن فقدان زوجها بمساعدتها حتى لا تحتاج إلى معيل، أمّا الهشاشة والبشاشة فهما عنوان شخصيّته السمحة الخالية من الكبر والعُجب والتعالي، وهي صفات ذميمة معهودة عند ذوي الجاه والسلطان والمال في تعاملهم مع العامّة. ومن القيم الأخلاقيّة المطلوبة في الصوفيّ أن يتلطّف بالنّاس ولا يبغي عليهم، رُوي عن الجنيد قوله: «لا يكون العارف عارفًا حتى يكون كالأرض يطؤه البَرّ والفاجر، وكالسحاب يظلّ كلّ شيء، وكالمطر يسقي ما ينبت وما لا ينبت» بمعنى أنّه يتعامل في منتهى اللطافة والسماحة مع الصالح وغير الصالح من عامّة الناس، إنّه يعمّ بخدمته الجميع بغضّ النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، ويشمل بمعروفه من يستحقّه ومن لا يستحقّه.
والصوفي يعالج أيّ خلل يراه في الناس دونما تشهير بهم أو تشنيع عليهم أو فضح لعيوبهم، بل إنّه يروم إصلاحهم بإسبال السّتر على نقائصهم وإخفائها عن الناس، وفي هذا المعنى يقول أحدهم: «إذا رأيت سكران فَتَمَايَلْ لئلّا تبغيَ عليه، فَتُبتَلَى بمثل ذلك»، ومقتضى هذا التوجيه أن تُظهِرَ من نفسك العيب الذي تراه في غيرك، حتى لا تعتقد أنّك أفضل منه، وحتى تكون له عونًا على مواجهة تعيير الناس له أو سخريّتهم منه، والمتصوّفة يصدرون عن حساسيّة حرجة تجاه هذه الأمور، لحرصهم على عدم إلحاق الأذى بالناس بسبب ما قد يَبْدُرُ منهم من أخطاء أو هفوات(10).
وكانت صلتهم في الحياة اليوميّة مع الفقراء على غاية من الوثاقة، فكانوا يختلطون بهم للاطّلاع على أحوالهم وتقديم العون لهم، فقد رُوِيَ عن سفيان الثوري أنّ الفقراء كانوا في مجلسه كالسلاطين، وإذا بلغهم عن أحد الأغنياء أنّه متعبّد سخروا منه، ذلك أنّ عبادة الغنيّ عندهم توزيع ما زاد على حاجته من الأموال على الناس، أمّا الصلاة والصّوم فلا يجديانه شيئًا ما لم يؤدِّ زكاةَ ماله. وقد ذكر الشعراني أنّ من أخلاق الصوفيّة تقديم إنفاق الدراهم والدنانير في طعام الجائع وكسوة العريان وقضاء الديون التي لا يقدر أصحابها على الوفاء بها على بناء الزوايا والمساجد. ونُقل عن عبدالله بن المبارك (تـ 181هـ/ 797م): «لقمة في بطن جائع أرجح في ميزاني من عمارة مسجد»(11).
إنّ لهذا المنحى الاجتماعي حضورًا بارزًا حتى عند أقطاب الصوفيّة ممّن انصبّ اهتماماتهم على الجانب العرفاني من التصوّف، فالبسطامي (تـ 261هـ/ 874م) يرجع في بعض شطحاته إلى حقوق الخلق، فعبّر عن همّه بهم في الدنيا وفي الآخرة. وعن حقوقهم في الدنيا تأتي هذه الحكاية التي تتضمّن حكمًا بإيفاء حقوق الفقراء بدلًا من إنفاق المال في الحجّ، قال: «خرجت إلى الحج فاستقبلني رجل في بعض المتاهات، فقال: أبا يزيد إلى أين؟ فقلت: إلى الحجّ، فقال: كم معك من الدراهم؟ قلت: معي مئتا درهم، فقال: فَطُفْ حولي سبع مرّات، ونَاوِلْنِي المئتي درهم، فإنّ لي عيالًا. فطفتُ حوله وناولتُه المئتي درهم»(12). ولعلّ هذه الحكاية من صنعه هو لتثبيت مبدأ تفضيل الإنفاق على الفقراء بدلًا من الحجّ، وقد ساقها بمنطق الصوفيّة ولغتهم، فجعل الرجل الفقير بمنزلة الكعبة، وطاف حوله ثمّ سلّمه المال وعاد إلى بلده عادًّا ذلك هو حجّه.
ولا يقتصر مثل هذا السلوك الاجتماعي الإنساني على متصوّفة المشرق، بل إنّنا نجد له أشباهًا ونظائرَ وشواهدَ كثيرةً عند متصوّفة المغرب الإسلامي تدلّ على أنّ الصوفيّ غيريّ المنزع، لا تعنيه ذاته الفرديّة ومصلحتها ونفعها، وإنّما همّه مساعدة غيره ولا سيما الفقراء والمستضعفون وذوو الحاجة، فقد روى أبو العرب القيرواني أنّ أبا خالد عبدالخالق وهو من زهّاد القيروان رأى رجلًا من أهل البادية وقد بدا عليه أثر البؤس، فهو «يقضم الشعير كما تقضم الدواب»، فإذا به يؤثره بما حمله إلى زوجته المريضة من لحم وخبز، بعد أن أفلح في إقناعها بأنّ الله يضاعف لها الأجر في الآخرة(13).
والبهلول بن راشد يَعمِدُ إلى بيع طعامه عندما غلا السعر ثمّ يشتري منه، وعندما سئل عن هذا السلوك المستغرب في مألوف العادة قال: «نفرح إذا فرح الناس ونحزن إذا حزنوا»(14). وفي هذا القول تعبير عن صميم الشعور بالمسؤوليّة الاجتماعيّة، وذلك بنكران الذات والتغلّب على شهواتها الذاتيّة، ومصالحها الآنية، من أجل إسعاد الجماعة.
هكذا يستبين لنا أنّ التصوّف لم يكن بمعزل عن المجتمع، وأنّ الصوفيّ لم يكن منقبضًا عن الناس منفصلًا عنهم، بل كان يحيا بين ظهرانيهم مسكونًا بهمومهم مشغولًا بمشاكلهم، يسعى جهده إلى التخفيف من معاناتهم، ومساعدتهم على سدّ حوائجهم، مسديًا النصح لهم، منتصرًا لفئة الفقراء والمستضعفين على وجه الخصوص. وهل المسؤوليّة الاجتماعيّة إلا انغماس في الناس وحمل لأعبائهم ونهوض بما يتقاصرون عنه ومقاسمتهم آلامهم والاستجابة لآمالهم. فإذا اتخذ الشباب مثل هذه النماذج السلوكية قدوة تعطف القلوب على القيم فالمظنون عندنا أنها تبدل منهم الفكر والسلوك معًا فيكونون بناة للحضارة لا معاول هدم لها.
خامسًا- في الحاجة إلى روحانية التصوف
ويبقى التصوف -في تقديرنا- قلب الإسلام(15)؛ لأنه إذا ذهب منه البعد الروحي لم يبقَ تصوفًا. ينبغي أن نؤكّد أولًا أنّ القرآن الكريم هو المعين الذي استقى منه المتصوفة مكوّنات تجاربهم؛ إذ اشتمل على آيات أغْرتْهم بتصوُّر درجة من القرب بين العبد وربّه تتجاوز ما كان متعارفًا في الإسلام المبكّر، من ذلك قوله: ﴿وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ﴾(16)﴿وَهْوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ﴾(17)، ﴿يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ﴾(18) وأنّ التصوّف الإسلامي في أصله وتطوّره صدر عن إدامة تلاوة القرآن وتدبّره والتخلّق بأخلاقه، ومنه استمدّ خصائصه المميّزة.
فإذا انتقلنا إلى المصدر الثاني من مصادر الإسلام وجدنا المتصوّفة يؤسّسون مذهبهم على التأسّي بأخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقتدون بسلوكه ويتّخذونه مثلهم الأعلى ويجعلون ذلـك شـرطًا من شروط الانتمـاء إلـى مذهـب التصـوّف.
إن الجانب الروحي هو لبّ التصوف وجوهره وهو الغاية التي يجري إليها. فالتصوّف في صميمه تجربة روحيّة تقوم على مجاهدة تفضي إلى صفاء القلب وانجلائه، فيتلقّى النفحات الإلهية والمعارف اللّدُنية، وهي معارف ذوقية وجدانيّة، فتتكشّف للقلب بعض الحقائق الكونية والحقائق الإلهية، وعلى وجه الخصوص الشؤون المتعلقة بالمعاملة بين الله والعبد، ويلقي الله في قلب العبد علومًا غريبة ومعارف قلبيّة ووَارِدَاتٍ عجيبة ووجدانيات مختلفة من شوق وذوق وحبّ وأنس ومهابة، ويبيّن له على سبيل الإلهام أسرارها وأحكامها، وكيف يمكن تقوية الصّلة بين الله وبينه، وما إلى ذلك ممّا تتضاءل أمام متعته الدنيا وما فيها، ويسمّي الصوفيّة هذه الشؤون أحوالًا، ويسمّونها كشفًا إلهيًّا لا نظير له في اللذة والمتعة، وتنهض بعظيم الأثر في مزيد تقرّب العبد من ربّه. إنّ المعرفة عند الصوفية هي غاية الغايات من رحلتهم الشاقّة المضنية، وهي خلاصة المذاقات الرائقة التي أتيحت لهم بعد أن صقلوا بالمجاهدة والرياضة إرادتهم. وهي لا تحصل إلا إذا امتلأ القلب تمامًا بنور الله.
إنّ التصوف في هذا المجال ذو ثراء روحي استثنائي. ولعل هذا الجانب هو الذي يبرّر الحاجة إلى التصوف في حياتنا المعاصرة، فإذا كان للإنسان وهو يواجه صعوبات الحياة المتزايدة وضغوطها المتكاثرة وسائل تمكّنه من الرجوع إلى أصله ومركزه، فإنّ ذلك سيجعله آمنًا مطمئنًّا، وسيدرك المظهر الزائل لكل شيء سواء أكان باعثًا على البهجة والسرور أم على الحزن والألم. إن تلك العلاقة التي يبنيها مع أصل وجوده ومركز كينونته تجلب له الشعور بالأمان والاطمئنان وتدفعه إلى التقلّل من متاع الدنيا والتزهّد في كثير من مباهجها، فلا يأسى على ما فاته منها، ولا يأْلَمُ على فقدان ما لا يدوم إلا لحظة؛ لأنه يشعر بأن الأبدية تنعشه، فيستشعر قوة روحية يحدّد بها هدفه ويوجّه سلوكه ويحيا بقلب مطمئن سعيد.
فالصوفي يعيش الحياة المادية ولكنّه دائم التعبّد والتفكّر والذكر، يقبل على العبادة أكثر من الآخرين، ويحاول أن يكون أكثر استقامة وأكثر إحسانًا وتسامحًا. ولا يكتفي بالعناية بنفسه بل عليه أن يخدم الإنسانية، وأن يكون شاهدًا على الحقيقة الربانية. إن الطاقة التي تحركه هي المحبّة ولا يمكن أن تكون معرفةٌ إلهية من غير محبّة، فالطاقة الوحيدة التي تسمح للكائن البشري أن يصل إلى هذا الطريق ويترقّى فيه هي المحبة. وما أحوج الناس في هذه الأيام إلى أن يتبادلوا المحبة. ولا شك عندنا في أنّ هذا من روح الإسلام، ألم يقل الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾(١٩).
محمد بن الطيب
باحث تونسي
الهوامش :
(1) المائدة 5/54.
(2) أبو العلا عفيفي، التعليقات على فصوص الحكم، ط.2، بيروت، دار الكتاب العربي، 1980م. 2/231.
(3) فصوص الحكم، تحقيق: أبي العلا عفيفي، ط.2، بيروت، دار الكتاب العربي، 1980م، 1/167.
(4) المصدر نفسه، 1/168.
(5) الرسالة القشيريّة، تحقيق معروف زريق وعلي عبدالحميد بلطه جي، بيروت، دار الجيل، 1990م، ص430.
(6) ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، تحقيق : محمود حامد الفقي، بيروت، 1972م، ج2، ص 316.
(7) الرسالة القشيريّة، ص281.
(8) المصدر نفسه، ص280.
(9) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت، د.ت.، ج1، ص20.
(10) هادي العلوي، مدارات صوفيّة، ط.1، دمشق، دار المدى، 1997م، ص185.
(11) نقلنا هذه الأخبار عن المرجع السابق، ص187 وص222.
(12) السهلجي، النور من كلمات أبي طيفور، تحقيق: عبدالرحمن بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، 1978م، ص164.
(13) المصدر نفسه، ص142.
(14) المصدر نفسه، ص134.
(15) – العبارة للشيخ خالد بن تونس من عنوان كتابه: التصوف قلب الإسلام (بالفرنسية)
(16) – ق50/16
(17) – المجادلة/58/7
(18) – المائدة 5/54
(19) – آل عمران 31