ملخّص
تشتغل هذه الدّراسة على إثارة عدّة محاور ومنها المحور التّراثي بقراءة قيم التصوّف من مصادره التّراثية، من خلال مقولات أقطاب الصّوفية، وإعادة بعث تلك القيم وإنعاشها في سياقاتها الحضارية الإيجابية، كلّ ذلك وفق منهج يعمل على عرض المواقف الدّاعمة للتصوّف والمناوئة له على حدّ سواء، ومن ثمّ إثارة القضايا ومناقشتها ممّا يضيء أمام المتلقي أفق الرّؤية ويفتح مجال الروية في إصدار الأحكام واتّخاذ المواقف.
مقدّمة
عني التصوّف لدى جمهور الدّارسين ببحوث كثيرة من جوانب متعدّدة، فانصبّت جهودهم نحو سير المتصوّفة وهو ما يظهر في المصنّفات الّتي تؤرّخ لطبقات الصّوفية وتراجمهم، كما انكبّوا يدرسون ظواهر التصوّف كالفناء والاتّحاد والحلول، وتتوجّه هذه الدّراسة إلى منحى آخر من مناحي البحث وتختصّ بدراسة قيم السّلوك الصّوفي، وليس اختيّارنا لهذه الزّاوية اعتباطا، وإنّما أردنا وضعه في مجسّ الاختبار لمعرفة مدى مشاركة الصّوفية في الحياة الفعلية، ودور التصوّف في تشكيل معالم الحضارة الّتي ينتمي إليها وبناء القيم الإنسانيّة، ويمكن أن نتوصّل إلى ملاحظة مختلف الأنماط الّتي يتحرّك التصوّف بداخلها، ومعرفة نوعيّة السّلوك الصّوفي، وذلك من خلال قراءة التّعريفات الّتي حظي بها من قبل أقطاب الصّوفية، ومن ثمّ تتحدّد أهداف البحث في تقديم القراءة الصّحيحة للظّاهرة الصّوفية كواقع متجذّر في مجتمعنا الإسلامي، وتعديل الرّؤى المناوئة للتصوّف القائمة على رفض أطروحاته الفكرية، ونفي دوره في النّهوض بالأمّة حضاريّا، وهي مناسبة ينطلق منها لتأكيد فرضية أنّ التصوّف عامل ازدهار وتقدّم، لا عامل تخلّف وتأخّر، وهو ما يكتشف من صميم القيم المشار إليها، منذ البواكير الأولى للتصوّف إلى وقتنا الحاضر.
1- التصوّف سلوك حضاري وقيمة اجتماعيّة تواصليّة منتجة.
اقترن السّلوك الصّوفي بالأخلاق والآداب، ويمكن أن نبدأ بتعريف بسيط للتصوّف نستجلي منه قيم التصوّف، يعرّف السرّي السّقطي التصوّف بأنّه: (خُلُق كريم، يُخْرِجُه الكريم إلى قوم كرام)، وفي ضوء هذا التّعريف تنفتح معالم الطّاقة المبدعة إلى قوّة الإخراج وفاعليّة المشاركة والتّواصل الاجتماعي، فلا بدّ لهذه الأخلاق أن تتعدّى صاحبها فيقوم بإخراجها إلى قومه، وعمليّة الإخراج هذه تشبه فعل الزّكاة، فكذلك زكاة النّفس بالأخلاق الطيّبة تستوجب من الصّوفي إخراج مقدار من ثروته الرّوحية إلى من هو بصحبتهم، فالتصوّف بهذا المعنى هو ما تؤدّيه الذّات نحو الآخر، وإن كان هذا الأداء أخلاقيّا بالدّرجة الأولى، فإنّ الأهمّ منه، تلك الشّحنة المعطاءة الّتي تتخلّص من الأنا الفردي متّجهة إلى الأنا الجماعي.
ولم تُنْقِص اجتماعيّات الصّوفية من تعبّداتهم، لأنّهم وضعوا الأشياء مواضعها، وأدركوا أنّ ما للخَلْق عليهم ليس أقلّ رتبة ممّا هو للحقّ، ولذلك أصّل البسطامي لفكرة التّعايش مع الخَلْق في ظلّ معايشة الحق،ّ فمن صفات الصّوفي: (أن تراه يؤاكلك ويشاربك ويمازحك ويبايعك وقلبه في ملكوت القدس هذه أعظم الآيات).
وتتعمّق معالم المشاركة الاجتماعيّة في عرْض أبي نعيم الأصبهاني فالتصوّف: (موافقة الحق، ومضاحكة الخلق)،باتّباع الشّريعة أمرا ونهيا، لكنّ ملازمة الطّريقة في رحلة الوصول إلى الحقيقة لا تتطلّب من الصّوفي انفراده في الشّعاب وَجَوْب المفاوز والقفار، أو الاستقرار في الصّوامع والمعابد، فالسّفر إلى الحقّ معراج روحي يرتقي فيه إلى السّماوات العلى ويطّلع من خلاله على الألطاف والأسرار، ثمّ ينزل عنه وفراشه الاجتماعي ما يزال دافئا، لأنّها نقلة سريّة سريعة وتطواف روحاني خاطف، ومضاحكة الخَلْق الّتي أشار إليها ليست عمليّة إيهام ومراوغة أو وجوديّة مقنّعة، لأنّها أكثر ما توحي إلى مباسطة الصّوفي لغيره والتّعايش السّلمي الإيجابي معهم، والفسحة الرّوحية والاجتماعيّة الّتي يخلقها في بيئته، لذلك فهو يشدّ أزر هذا المعنى بتعريف آخر يجعل من الصّوفي شريكا اجتماعيّا ومسهما اقتصاديّا من الدّرجة الأولى، من خلال قيمة ماديّة حضاريّة أخرى وهي التّسامح بالمال.
ولنتأمّل هذا التّأسيس المالي الذّكيّ المرتبط بقيم أخلاقيّة ومعايير دينيّة، تحقّق التّكامل الاجتماعي والتّكافل المادّي بين أفراده، إنّه تصوّر يقدّم نموذجا إلى جميع العصور مع شمول صلاحيّة تطبيقه على مختلف المجتمعات الحاضرة والمستقبليّة، لأنّه لا يستغني عن أحد شقّيه، فالاستغناء عن الأخلاق في التّأسيس الاجتماعي الحضاري يصيب الأمّة بالعقم الرّوحي، واستغناؤه عن الجانب المادّي يصيبه بالعطب والإفلاس على صعيد المال والإنتاج.
وللشّيخ أبي سعيد بن أبي الخير رؤية موافقة في اعتباره الوليّ الحقّ من: (يدخل ويخرج مع العامّة وينام ويأكل معهم ويشتري ويبيع في السّوق ويشارك في المحادثات إلاّ أنّه مع ذلك لا ينسى االله لحظة واحدة). (إنّ هذه المقاصد ترسم أفقا مشرقا لاستشراف الكمال الإنساني في سيّاقاته الاجتماعيّة الحضاريّة، يترك فيها الصّوفي ما في رأسه ويمنح ما في كفّه، ولا يجزع ممّا يصيبه ).
إنّ احتفاء الصّوفية بالجانب الأخلاقي لم يبق سجين الفرديّة أو القيمة النّظريّة، وإنّما تعدّاها إلى الممارسة الفعليّة والتّطبيق العملي، الّذي تنتظم فيه الأخلاق العمليّة، أو فلنقل إنّه قد توزّع إلى قسم المعاملات، فالسّادة الصّوفية لم يفصلوا بين العبادات والمعاملات، لأنّهم حاآوا نسيجا متماسكا بين الحقّ والخَلْق قوامه: (الصّدق مع الحق،ّ وحسن الخُلُق مع الخَلْق) فإذا أراد العبد أن يختبر صدقه مع الحق،ّ فلينظر إلى معاملته للخَلْق، لأنّ التحقّق بالحقّ لا يكتمل إلاّ بتصحيح معاملة الخَلْق.
وتعمّقت فلسفة الأخلاق لدى محي الدّين بن عربي، بمعاملة كلّ أمر بما تعطيه رتبته ومنزلته، فمعاملة االله تكتمل بالوفاء بما عاهدته عليه من الإقرار بربوبيّته عليك، ومعاملة الآيات بالنّظر فيها، ومعاملة ما تدرآه الحواسّ بالاعتبار، ومعاملة البصر بالغضّ عن محارم االله، ومعاملة السّمع بالاستماع إلى أحسن الحديث والقول، واللّسان بالصّمت عن السّوء من القول، ومعاملة الرّسل بالاقتداء بهم، ومعاملة الملائكة بالطّهارة والذّكر، ومعاملة الشّيطان من إنس وجانّ بالمخالفة، ومعاملة من هو أكبر منك بالتّوقير، ومن هو أصغر منك بالرّحمة، ومعاملة الأشجار والأحجار بعدم الفضول، والأرض بالصّلاة عليها، ومعاملة الأسماء الإلهيّة بالتخلّق بها، ومعاملة الدّنيا بالرّغبة عنها، والآخرة بالرّغبة فيها، ومعاملة المال بالبذل، ومعاملة الموجودات كلّها بالنّصيحة، وهكذا يسترسل في وصيّة بالغة بيان جنس معاملة آلّ ما يعرض للصّوفي من حيّ وجامد في أمور الدّنيا والشّرع والآخرة ).
وتوسّعت القيمة التواصلية لدى مشايخ الصّوفية من المعاملة إلى العمل، فالتصوّف تصبّر واحتمال، وتشمّر واعتمال،غير أنّ اعتمال أنواع المجاهدات والرّياضات، لا تنفي النّشاط الاجتماعي بأدواره العمليّة التّعليميّة، ويتوزّع الحسّ الصّوفي المتكامل إلى مختلف الأبعاد القيميّة المرتكزة على: (التّحصيل للأصول، ثم التّنبيه للعقول، والتّعليم للجهول )فالتصوّف منظومة متعدّدة الأقطاب، يمثّل الصّوفي فيها البؤرة المشعّة المتحرّكة بنفسها المحرّكة لغيرها.
لقد استوعب مشايخ الصّوفية القيمة العمليّة للتصوّف، ووعيهم كان منظّما تنظيما منطقيّا، أدركوا من خلاله ضرورة أن يُسْبَقَ العمل بالعلم والمعرفة، ولذلك فإنّهم لم يفصلوا بين حلقات السّلسلة الثّلاث، القائمة على العلم والعمل والموهبة، لأنّ الحلقة لا تفضي إلى ما بعدها إلاّ إذا استكملت دورتها استكمالا تامّا، فأوّل التصوّف علم وأوسطه عمل وآخره موهبة، فلا بدّ من العلم والكسب لبلوغ مراتب الوهب، ولم تقتصر الأعمال على التعبّد وأداء الفرائض والنّوافل وحسب، بل أضافوا إلى الأخلاق السنيّة كالبذل والإيثار، شرط التشرّف بخدمة الأخيار، وقد دلّت مقولاتهم على أنّ تكليف السّالك بالخدمة كان من أبرز شروط سلوك الطّريق، وأمدّوا فيها لتشمل أشكالا آثيرة يقرّرها الشّيخ لمريديه، فمحافظة الحرمة، ومداومة الخدمة كانت دأبهم وعادتهم.
ولنرخ سمعنا إلى نداء الصّوفية بل إلى شعارهم الرّوحي المتين: "إنّ على الصّوفي أن يخدم المرضى حتّى وإن كان هو كذلك منهوك القوى"، فخدمة الخَلْق شرط لخدمة الحقّ وسبب موصل إليه، يقول ابن خفيف: "إذا كنت لا تحسن خدمة صاحبك من البشر فكيف تستطيع أن تحسن خدمة االله" فمبدأ الخدمة يقوم على توظيف السّالك وإشراكه في الأعمال الّتي يكون فيها خادما لا مخدوما قهرا لغريزة الاستعلاء الحيوانيّة، وتعويضها بالتّسامي الرّوحاني.
إنّها المحبّة الصّادقة للخلق الّتي تفضي إلى محبّة الخالق، فلا يكون العبد محبّا للحقّ مخلصا في محبّته وهو كاره للخلق، وحين يدرك الصّوفي هذه الحقيقة يرى رحمة االله في رحمته لإخوانه، وصرف بلاء آخرته في دفع بلاء الدّنيا عن غيره، وقضاء حاجته في قضاء حوائج النّاس والسّعي عنهم، بل ويرى فيهم ما يراه المخلوق من أثر الخالق فيهم، فيعاملهم بالرّفق والإحسان، وبمثل هذه المعاني الجيّاشة امتلأت بيانات الصّوفية.
وقد حثّ محي الدّين بن عربي على العمل بمقتضى العلم، فعلى الصّوفي أن يستعمل العلم في جميع حركاته وسكناته، لأنّ العمل بمقتضى العلم يورّث العبد علما آخر لم يكن يَعْلَمْه ينتفع به في دنياه وآخرته، وأمّا إن ترك العمل فإنّه يكون آالسّراج أو الشّمعة يضيء للنّاس ويحرق نفسه، ولذلك ربط ابن عربي بين العلم والعمل وحسن الإيمان.
واحتفاء مشايخ الصّوفية بالعمل، لم يجعلهم ينخدعون بما يقومون به من أعمال تعبّدية أو وظائف اجتماعية، وقد نصح البسطامي مريديه بقوله: (حسب المؤمن من عقله أن يعلم أنّ االله غنيّ عن عمله) وهو تحذير من أن يغلب على المريد عمله، فيصبح له من العلائق والعوارض الّتي تحجبه عن الحقّ وتبعده عنه، ومنها مناجاة النّفري لخالقه: "اللهمّ إنّي أعوذ بك من أن أعلم علما إلاّ بك، أو أريد علما إلاّ لك، أو أعمل عملا إلاّ لوجهك، أو أتوجّه وجهة إلاّ في طاعتك"، وفي مناجاة أخرى: "إنّي أعوذ بك من أن أنفق مالا إلاّ في حقوقك"(النفري). وهذا ما كانت تلهج به حناجرهم، وصدّقت عليه أعمالهم، وورّثوه إلى مريديهم، فالعلماء ورثة الأنبيّاء والصّوفية أوليّاء االله وأهل الميراث النّبوي، فليس أطيب من اجتماعية ربّانية ترعاها يد إلهيّة مباركة تحفظ فيها الحقوق وتراعى فيها الممتلكات وتصان فيها كرامة الإنسان.
2 - التصوّف سلوك فردي منفتح
نجد مقابل السّلوك الصّوفي المنفتح على المجتمع، نوعا آخر يختلف عنه في المنهج وهي السّلوكية الانطوائيّة الّتي تميّز بها بعض الصّوفية ودعوا إليها، جاعلين الفردية والانعزاليّة سبيلهم إلى بلوغ الأمل، ومن ذلك اعتبارهم التصوّف "تطليق الدّنيا بتاتا،ً والإعراض عن منالها ثباتاً" وقد طبّق كثير منهم هذا المبدأ في شقّيه تطبيقا حقيقيّا، فآثروا الخروج عن الدّنيا على خروجهم إليها، والتزموا مساكنهم ورباطاتهم ودُور عباداتهم، وعزفوا عن الدّنيا واخْتَلَوْا بأنفسهم عن الخَلْق، لاعتقادهم أنّ الاتّصال بالخالق لا يحدث إلاّ بالانفصال عن الخَلْق، فكان انقطاعهم عن النّاس ترجمة عمليّة لمبدئهم في الانقطاع عن السِّوى والأغيار، ولأنّهم اعتبروا الخَلْق حجابا عن الحق،ّ فدخول الطّريقة كان عندهم في الانفراد بالحقّ عن ملابسة الخَلْق، وشرح بعضهم أسرار العزلة وأصولها في اعتزال البريّة قلبا وجسدا.
وأصول العزلة لدى القشيري توجب الخروج عن غير االله، فلا تحصل الوصلة باالله إلاّ بعد العزلة عن غير االله، لذلك قيل عن فتية الكهف أنّهم لـمّا اعتزلوا ما عُبِد من دون االله، أواهم الحقّ إلى آنف رعايته ومهّد لهم مثوى في آهف عنايته، وقد جعل الصّوفية الحقّ والخَلْق على طرفي نقيض، فكان لا بدّ من التبرّي عمّن دونه والتخلّي عمّن سواه، فذهب بعضهم إلى حدّ إسقاط رؤية الخَلْق ظاهرا وباطنا ، فأصبح التصوّف قرين التّعطيل، بما يحمله من قيم سلبيّة وجمود وخمود، نتيجة منطقيّة للمغالاة والتّشديد في تحديد المبادئ ورسم القوانين والمبالغة في تطبيقها، ممّا أدّى بالسّالك إلى العجز عن فعل شيء نافع يُفيد منه، فالجلوس للعبادة أو التأمّل أو استبطان الذّات، هو العمل الّذي ملأ على الصّوفي وقته وشغل يومه، ومن ثمّ أصبح الخشوع، والخمول، والقنوع، والذبول، صفاته الّتي يسام بها، وعاد مُدْمِنا على الإذلال والإقلال والإخمال.
ولم يصل إلى المفهوم الصّحيح العميق للوحدة الصّوفيّة وتطبيقها بصفة سليمة إلاّ الأقطاب المحقّقين، فالجنيد أقرّ أنّ التصوّف هو: (أن تجلس ساعة معطّلاً عن ملاحظة شيء) ومع ذلك لم ينادي بإبطال الفعل والحركة، وإنّما أشار إلى ما يشبه إفراغ الفكر والذّات من كلّ الشّحن السّلبيّة الّتي تعلق بهما وتعكّر صفوهما من أجل السّماح للطّاقة الإيجابيّة بأن تأخذ مكانها، فوضعيّة اللاّ تأمّل واللاّ تركيز على شيء محدّد، عمليّة تمكّن الصّوفي من استبدال الشّحنات السلبيّة بأخرى إيجابية تمتلئ بها الذّات، وتهيّئه لاستقطاب الإلهامات الإلهيّة، وتشرفه على الرّوحانية المتّزنة.
وقد أثّرت نظريّة "العامل" لدى أقطاب الصّوفية على الأفهام السّاذجة الآخذة بظاهر اللّفظ وسطحيّة المعنى، فأمدّوا من حبلها في الاعتقاد بنفي التّدبير والسّعي، وتجلّى هذا المبدأ لدى الشّيخ الأكبر في أنّ الحقّ تعالى هو العامل بالإنسان من حيث أنّه لا فعل له، أو من لم يحسن العمل كان العامل غيره، فالتصرّف بأوامر الشّرع والانتهاء عند نواهيه هو عين التخلّص من الحدث فيصبح العبد محلّا لأثر الحقّ فيصير سمعه وبصره وعينه ويده. (ابن عربي)وظهر المبدأ ذاته لدى جلال الدّين الرّومي في سيّاق جديد وصياغة أخرى: "عندما لا تنسج يكون الخالق هو النسّاج"، فالقصد ليس أبعد من إسلام المهجة إلى الحقّ تعالى، لأنّ الأوليّاء والأصفيّاء يعملون دون علل ثانويّة لكونهم خلّقوا أنفسهم بأخلاق الحق،ّ ولذلك فهم يعملون باالله لا بغيره.
وأمّا الإعراض عن منال الدّنيا، فقد مثّل قطع العلائق، وهي كلّ ما يحول بين المرء وربّه، أو ما يشتغل به عنه كالملذّات والطيّبات وحتّى المباحات، فهجروا الطّعام والمنام والكلام إلى جانب اعتزالهم الأنام، لأنّهم ما أخذوا التصوّف عن القيل والقال، لكن عن الجوع، وترك الدّنيا، فكان الجوع طريقهم إلى الإشباع الرّوحي والمعرفي، وشقّوا منه طريقا إلى الحكمة، فإذا جاع العبد مطر قلبه بالحكمة.
غير أنّ ذلك الانقطاع عن البشر كما عناه أكابر الصّوفية، إنّما هو انقطاع بالقلب لا بالحس، فليس الكامل من صدرت منه أنواع الكرامات وإنّما الكامل الّذي يقعد بين الخَلْق يبيع ويشتري معهم ويتزوّج ويختلط بالنّاس ولا يغفل عن االله لحظة واحدة .
والمتتبّع لسير الصّوفية يتنبّه للحركيّة الّتي كانوا يخلقونها في حياتهم من أسفار ورحلات وتنقّلات في المشارق والمغارب أخذا للعلم واجتماعا بنظرائهم واتّصالا بشيوخهم وكذا الجهود التّنظيرية والنّشاط الإبداعي الزّاخر المتنوّع بين التّأليف في العلم والفقه والفلسفة والكتابة النّثرية والشّعرية.
ووصف الجنيد في رسالة "دواء التّفريط" المقرّبين من االله لتحبيبهم إلى العباد وتيسير الاقتداء بهم والسّير على خطاهم والعمل على منوالهم، وفي رسالة "أدب المفتقر إلى االله"، عطف على تلك الأخلاق بالرّضى عن الخالق عزّ وجلّ في جميع الحالات، وعدم مسائلة أحد سوى الحقّ تعالى.
ومال بعض الصّوفية إلى الاعتقاد بأنّ التصوّف توفيق إلهي، استأثر به في مديد علمه وطيّ غيبه، فلا يفيد العبد كسبه وتعبّده، إلاّ إذا كان موفّقا إلى ذلك توفيقا إلهيّا، فمن الصّعب أن يصبح صوفيّا من لم يولد صوفيّا، ولذلك قال بعضهم: "فهذه الخِرقة لا بدّ وأن تكون قد خيطت في قديم الأزل" والاعتقاد بمبدأ الاصطفاء الإلهي الّذي يجعل من الوليّ مختارا كما يكون النبيّ مختارا؛ ولّد الشّعور الصّوفي المتواتر الّذي تمظهر في رموز المصافحة والسّبحة والسّلسلة والخرقة... ويراد بالمصافحة إعطاء الطّريقة يدا بيد، وانتقالها من حضرة الرّسول الأعظم عبر سلسلة مشايخ الطّريقة إلى الوقت الحاضر، حيث يقوم الشّيخ بإيصالها إلى المريدين أيضا يدا بيد، وهي كناية عن البيعة أو المعاهدة أو اللّمسة الرّوحية.
وتجلّى استخدام السّبحة في تناول كلّ واحد منهم إيّاها عمّن سبقه، بعد أن رآها في يده وأخذ الإجازة منه للعمل بها، وقد قال فيها الجنيد: هذا شيء كنّا استعملناه في البدايات ما كنّا نترآه في النّهايات.
والسّلسلة هي الخيط الرّوحي الّذي يربط مؤسّس الطّريقة الجديدة بأحد مشاهير الصّوفية السّابقين، أو جماعة منهم ممّن كانوا قبله، حتّى يصله الإشعاع الرّوحي الأوّل في الإسلام، وهو رسول االله ورمزها التّتابع والاتّصال، فالمنتسب يكون كالحلقة في السلسلة لا يتحرّك في أمر إلاّ تحرّكت السّلسلة كلّها، بخلاف غير المنتسب فإنه يتحرك وحده ويسكن وحده.
أمّا الخرقةُ لغةً: قطعةُ الثّوب الممزّق، وفي الاصطلاح: عتبة الدّخول في الصّحبة، وهي بمعنى المبايعة والتّفويض والتّسليم والدّخول في حكم الشّيخ، ثمّ توسّعت إلى ما يعطيه الشّيخ لمريده من تاج وجبّة وقميص وسجّادة وإبريق وسبحة وغيرها.
فالسّلوك الصّوفي وإن بدا انعزاليّا في ظاهر مقولاته، فإنّ باطنه ينمّ عن الانفتاح على النّفس وعلى الآخر، والمقدرة على فهم المقاصد المختفية وراء الكلمات المطروحة، هي نفسها المقدرة على قراءة الذّات وتأويلها، وتطوير إمكاناتها وقدراتها، فيتحرّك المرء إلى اختراع الذّات وخلق نموذجها بدل استهلاكها.
3 - السّلوك الصّوفي حريّة في عبوديّة
ما أقلّ التّعريفات الّتي نسبت الحريّة للصّوفي، فالسّلوك الصّوفي كان دائما رديف العبوديّة ونفي الاختيّار والإرادة، وإذا ما اقترن التصوّف بالحريّة، فإنّها حريّة تدلّ على التوسّع في الأخلاق والتنقّل بين الفضائل، فالتصوّف ظلّ تعبيرا عن: الحرية، والمروءة، والبساطة، والسّخاء، والكرم، أو هو حريّة، وفتوّة، وترك التكلّف في السّخاء والتظرّف في الأخلاق، فلم تخرج دلالات الحريّة في هذين التّعريفين عن الحقل الأخلاقي، ولذلك كان المعنى الحقيقي للحريّة هو الدّال على العبوديّة الله تعالى، ولا يمكن أن نفهم الحريّة إلاّ بفهم معاني العبوديّة.
وضّح محي الدّين بن عربي مفهوم الفقر والعبوديّة في قوله: "كن فقيرا من االله كما أنت فقير إليه، ومعنى فقرك من االله أن لا يشمّ منك رائحة من روائح الرّبوبية بل العبودية المحضة كما أنّه ليس في جناب الحقّ شيء من العبوديّة، ويستحيل ذلك عليه فهو ربّ محض فكن أنت عبدا محضا". فالرّبوبية المحضة للخالق والعبودية المحضة للعبد تنفيان أوهام وحدة الخالق والمخلوق، وتَظْهَر عبقريّة السّادة الصّوفية في تصوّرهم الحريّة عين العبوديّة، فالحكمة الصّوفية تنفي التّعارض بينهما، وهي الجمعية الّتي لا تعني تداخل الحدود والصّفات، لأنّ جمعهم بين الحرية والعبودية جمع أضداد وليس جمع نقيض، فإذا كان ظاهرهم الحريّة فإنّ بواطنهم عبودية الحقّ بالافتقار والتّسليم والتّنزيه والتّوحيد، وإذا كان ظاهرهم العبودية فإنّ باطنهم تحرّر عن الأغيار والعلائق والخواطر والشّرك الظّاهر والخفيّ.
وينتفي الالتباس عن نوع الحريّة الّتي ينالها الصّوفية لأنّهم كما وصفهم أبو بكر الكتّاني: "عبيد الظّواهر، أحرار البواطن" فالصّوفية أحرار البواطن بما لهم من عبوديّة للحق، وهم أحرار بما لهم من عدم التّبعيّة للأغيار، ولذلك اعتبر أدب المريد في علاقته بالشّيخ هو أدب تحريره من رقّ الأغيار بإنهاض قلبه في طلب الحقّ ، فالصّوفية وإن بَدَوْا عبيد الظّواهر، فهم سادة الخلق وأشرافهم.
ولننظر إلى إخلاص أبي يزيد البسطامي عبوديّته لربّه في قوله: "النّاس كلّهم يهربون من الحساب ويتجافون عنه، وأسأل االله تعالى أن يحاسبني، لعلّه يقول لي فيما بين ذلك: يا عبدي، فأقول: لبّيك، فقوله لي: عبدي، أعجب إليّ من الدّنيا وما فيها، ثمّ بعد ذلك يفعل بي ما شاء".
وإذا كان الصّوفي هو المصروف عن حريته، فما نوع الحريّة الّتي ينالها إذن؟ نجد جوابا في تعريف ابن عربي للحريّة من أنّها: "الاسترقاق بالكليّة من جميع الوجوه"، ومعناه أن تكون حرّا عن كلّ ما سوى االله، وإزالة صفة العبد بصفة الحق، والخروج عن الوجود البشري إلى الوجود الإلهي، بالارتفاع عن كلّ ما هو موجود، فتحقيق الفعل الإرادي يتعيّن في العبودية الله لا عنه، والحريّة تتمّ من خلال تخليص النّفس من تبعيّة الموجودات، لذلك الحرّ مَنْ مَلَكَ الأمور بأزمّتها ولم تملكه وصرفها ولم تصرفه، فالحرية هي تحرّر من الأشياء، أمّا التحرّر بالأشياء فهي عين العبودية والاسترقاق المادّي، لذلك كانت الحريّة المنشودة خروج عن رقّ الكائنات، لا تلك الّتي تجعل العبد مملوكا لشهواته ونزواته. فليس للحريّة وجود عين لدى الشّيخ الأكبر، وحقيقة الحريّة في غنى الذّات عن العالمين، والعالَم أبدا مفتقر إليه، فالعالَم عبيد فلا حرية لهم أبدا.
وبين الحريّة والعبوديّة، تتحدّد معالم النّفس الخالصة، فإذا وجد العبد حريّته كان مخيَّرا وإذا فقدها كان مختارا، فلينظر العبد أيّ المنزلتين يريد، فالعبوديّة سرّ العطاء والمنحة والاصطفاءالربّاني، ومقام نفي الإرادة مقام رفيع لدى أقطاب الصّوفية، ولذلك كان البسطامي يردّد: "أريد ألاّ أريد"، أمّا النفري فقد اعتبر أهل الاختيّار مرضى، لا لشيء سوى لأنّ نسبة الاختيّار إلى أنفسهم هو المرض بعينه.
ومن التّعريفات الّتي ردّت التصوّف إلى العبوديّة ما نجده لدى أبي يزيد البسطامي بطرح النّفس في العبوديّة، وتعليق القلب بالرّبوبية، واستعمال كلّ خُلُق سَنِي،ّ والنّظر إلى االله بالكليّة، وطرح النّفس في العبوديّة تذكرنا بعبارة بليغة للعطّار في أسلوب موسيقي وجداني وشاعريّة حالمة بـ: "لزوم الشّجاعة ونثر الرّوح أمام الحبيب".
والعبودية إرادة الحقّ في الخَلْق بلا خَلْق، وألاّ يَرى العبد في نفسه ظاهراً وباطنا،ً بل يَرى الحقّ في كلّ ذلك، لأنّه أسير في يديّ االله بلا إرادة ولا اختيّار.
وهنا يأتي دور الشّيخ في تسليك مريديه، فيضعون إرادتهم في إرادته، ولذلك حدّد السّهروردي في أدب المريد مع الشّيخ قاعدة "سلب الاختيّار"، وعدم التصرّف بالنّفس والمال إلاّ بمراجعة الشّيخ وأمره، وإذا سلّم المريد إرادته لشيخه، فلكي يصل بها إلى إفناءها في إرادة الخالق، ولذلك قيل: إنّ السّكون أمام الشّيخ هو أسلوب تحرير الإرادة النّفسية عبر تذويبها في إرادة الحق، وهنا تتأسّس قاعدة "أن يكون المريد كالميّت بين يديّ غاسله".
وقد نُظِرَ إلى هذا المبدأ بعين الانتقاد والطّعن، لأنّ الغالب على الفهم الجانب السّلبي الّذي لا يرمي إلى التصوّف بِصِلَة، فقيمته الإيجابية، تتمثّل في أنّ تخلّي المريد عن أفعاله، ما هو إلاّ لتحلّيه بأفعال من هو أكمل منه صورة، إلى أن يصير فاعلا باالله، وإضافة المريد إلى الشّيخ لا تعني نفي شخصيّة المريد أو استلابها، ولنمثّل للعلاقة بين الشّيخ والمريد بمرآتين متقابلتين، فالمريد يراقب مرآة نفسه في مرآة شيخه، فيصلح عطبها ويعالج ضررها، ويصقلها إن رأى عليها كدورة، ويجلوها إن رأى فيها ظلمة النّفس الشهوانية والأمّارة واللّوامة، فيخجل من تقصيره، وتعلو همّته نحو مراتب الكمال، وهذا الدّور الّذي تؤدّيه معيّة الشّيخ، لا يتحقّق فيما إذا كان مستقلاّ عنه.
ولهذا الأمر اعْتُقِدَ أنّ بِرَّ المريدين للشّيخ يجب أن يفوق بِرَّهم بوالديهم، لأُبُوَّتِه الرّوحية، فالأب يحمي ولده عن آفات الدّنيا، والشّيخ يحمي تلميذه عن آفات الآخرة، ولذلك حذّر ابن عطاء االله من خطورة الاستغناء عن معيّة الشّيخ: "من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع ويكشف عن قلبه القناع فهو في هذا الشّأن لقيط لا أب له دعيّ لا نسب له"، وقسّم الكاشاني الآباء ثلاثة: "أبٌ وَلَدَك،َ وأَبٌ عَلَّمَك،َ وأب ربّاك".
وتقع الإرادة الصّوفية برزخا بين الأنا والهو، ومجهود المريد هو إخراج الإرادة من ذاته وقدرته إلى ذات الهو وقدرته، أو هو إمالتها من عالم الخلق وردّها إلى عالم الحق، لذا كانت الإرادة دائما في عرف الصّوفية هو موت الإرادة والتجرّد منها والانخلاع عنها، وإذا تابعناها بأكثر تقريب لم نجدها أبعد من آونها إماتة الإرادة البشريّة وإحياؤها في الإرادة الإلهيّة، وفي هذا الإطار تأتي عبارة البسطامي على لسان خالقه: "من أتاني منقطعا إليّ جعلت إرادتي في إرادته"، وهو أمر لا يحدث لدى نجم الدّين الكبرى إلاّ بـ " الموت الكبير الأخير".
إذن فمناقشة مسائل حاسمة في السّلوك الصّوفي كالإرادة والحرية والاختيّار تختلف جوهريّا عنها في قضايا الفلسفة الغربيّة والأفكار الوجوديّة، لذا فإنّ نفيها عن الصّوفي لا يعني أبدا الاسترقاق والعبودية؛ لأنّه لا يحدّد علاقته الأساسيّة مع الوجود البشري ولا يربط مسائله مع العالم الطّبيعي فالعلاقة المحوريّة قائمة بين الوجود الصّوفي والوجود الإلهي، إذن فهي وجوديّة لاهوتيّة، وإذا استثنينا هذا البعد فإنّ الصّوفي مخلوق بشري لا يختلف عن غيره من النّاس، إلاّ من حيث آونه يعيش إنسانيّه بامتيّاز بتخطّي جانبه الحيوانيّ وتهذيب غرائزه ومهمّة الشيخ تسليك المريد إلى الأدوار الكبرى.
4 - التصوّف قيمة معرفيّة كشفيّة
أجمع الصّوفية على اختلاف طرقهم ومناهجهم، على أنّ لُباب التصوّف هو ما ينكشف للصّوفي من حقائق عرفانيّة وأنوار ربّانية، من جهة الفتح الإلهي والوهب الرّحماني، نتيجة ملازمتهم أصول الطّريق والتزامهم مختلف الآداب والأخلاق والعبادات والمجاهدات والأسفار الرّوحية والبدنيّة الشّاقّة، وتتميّز هذه المعارف من صوفي إلى آخر لتتلوّن بتجربته الدّاخلية، فيعرضها في نسق خاص، ولمعاينة طبيعة معارف أقطاب الصّوفية، لا بدّ من الوقوف على أقوالهم والبحث في مقولاتهم، لتحديد مضامين القيم المعرفيّة والكشفيّة للتصوّف.
أخذت المعرفة لدى أساطين الصّوفية أبعادا حسّاسة، لأنّها ليست كأيّ معرفة طبيعيّة محسوسة أو حتّى عقليّة مجرّدة تُحَلّ بالتّخمين والمنطق ووضع الفرضيّات واستنتاج النّتائج، لأنها تتعلّق بمعروف ليس كمثله شيء، لذلك وضع الصّوفية الفروق بين المعرفة والعلم، ومنها أنّ نهاية العلم هي بداية المعرفة وإلى ذلك أشار الإمام القشيري، فإذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم في النّقصان بزيّادة المعارف آالسّراج في ضوء الشّمس.
والمعرفة لدى النفري ما آان طريقه القلب، وهي ما أثبتت للخالق حقّا ومَحَت حقّ العبد، أمّا العلم فهو ما أثبت حقوق العبد: "فكلّ ما أثبت لك حقّا فعلم، وآلّ ما أثبت عليك -لا لك- حقّا فمعرفة"(النفري)، فإذا تحقّق العارف بالمعرفة صار العلم له دابّة يمسك زمامها ويسير بها إلى حيث شاء: "إذا عرفتَ معرفة المعارف جعلتَ العلم دابّة من دوابّك وجعلتَ الكون كلّه طريقاً من طرقاتك"، فالكون ينقل السّالك إلى المكوّن، والعالَم إنّما سمّي كذلك لأنّه كان علامة على الحقّ تعالى.
ووضع الصّوفية التّعارض بين المعرفة والجهل، فاستحبّوا الجهل لأنّه دليل على المعرفة، أمّا إذا أصرّ العبد على المعرفة، فلا يورّثه ذلك الإصرار أبعد من الجهل، ولذلك قال البسطامي:"لا يزال العبد عارفا ما دام جاهلا فإذا زال عن جهله زالت معرفته"، لأنّ العارف إذا اعتقد ثبات الحقيقة الّتي وصل إليها، انتهت معارفه وصار مخدوعا بعلمه وانقلب له ذلك العلم حجابا عن الحق، بدلا من أن يصبح بداية استشراف لحقيقة لا تزال مطويّة في غياهب الجهل.
وفي وقفتين ربّانيتين، ذكر النفري خطورة الرّؤية والعلم على غير المتحقّق فقال في الأولى: "العلم على من رآني أضر من الجهل"، وقال في وقفة روحانيّة أخرى: "الحسنة عشرة لمن لم يرني والحسنة سيئة لمن رآني"، ولصاحب المواقف مقولات في المعرفة أثبتت أنّ الجهل ليس هو ما تعارض مع المعرفة، فنفي الجهل لا يحقّق معرفة لأنّه ليس نقيضها، ومعنى هذا أنّهما لاَزِمَان، فمن لم يستقر في الجهل لم يستقر في العلم، والمعرفة التي ما فيها جهل هي المعرفة التي ما فيها معرفة".
وحقيقة العبادة لدى الجنيد هي المعرفة، لأنّ أوّل عبادة االله عزّ وجلّ معرفته، وأصل معرفة االله توحيده بنفي الصّفات عنه بالكيف والحيث والأين، وتعلو المراتب بالصّوفي في تصديقه من الأدنى إلى الأعلى، فيقع له الترقّي إليه والاتّصال به، وهو ما يتوافق مع رؤية أبي بكر الشبلي، في كون أصل التصوّف توحيد الخالق، فـ"التصوّف بدؤه معرفة االله ، ونهايته توحيده" غير أنّه ليس كلّ راغب يقع له الكشف العرفاني، لأنّ ذلك يتوقّف على قدرة الصّوفي على حمل العلوم اللّدنية وتأهيله الفكري، وإذا كان التصوّف بهذا المعنى هو التأهل لمعرفة االله، فإنّ من لا تتوفّر فيه الخصائص الرّوحية والنّفسية والعقليّة للنّفث الرّوعي، ووراثة العلوم النبويّة والأسرار الإلهية، لا يجاوز دور العبادة رحمة به ورأفة بحاله، وقد باح البسطامي بذلك في قوله: "اطّلع االله على قلوب أوليّائه فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة صرفا، فشغلهم بالعبادة".
والمقصد الأسنى من التصوّف، بلوغ أعلى مراتب المعرفة باالله، وأسمى درجات اليقين في التوجّه إليه، ومن هنا فإنّ الغاية المعرفيّة لا تأتي إلاّ بعد المكابدة والبحث، لأنّها إلهامات ما كان لها أن توجد إلاّ بأساس فكري سابق، قوامه فهم في معاني القرآن وأسرار الشّريعة، فجوهر التصوّف استقامة المناهج.
إنّ أغلى غايات الرّاغب الوصول إلى مقامي الكشف والمشاهدة وبلوغ الاتّصال، ورحلة الصّوفي في بذل المجهود لمشاهدة المعبود، لا تتمّ إلاّ بقطع العلائق والحُجُب، الّتي تشمل كلّ ما يشغلهم لحظة عن ربّهم، فأشدّ المحجوبين عن االله لدى البسطامي ثلاثة بثلاثة: فأوّلهم الزّاهد بزهده، والثّاني العابد بعبادته، والثّالث العالم بعلمه، وآلّما تقدّم الصّوفي في توسيع معرفته باالله، زاده ذلك تأخّرا وجهلا، لأنّ المعرفة في ذات الحقّ جهل، لذلك قال: "لا يزال العارف يعرف والمعارف تعرف حتّى يهلك العارف في المعارف، فيتكلّم العارف عن العارف ويبقى العارف بلا معارف"، فلا يستبعد أن يسير الصّوفي إلى هلاكه وهو يعتقد أنّه يقترب من ضالّته.
أمّا الجنّة فهي الحجاب الأكبر الّتي تبعد الواصل عن ربّه، لأنّ أهلها سكنوا إليها، وكلّ من سكن إلى غير االله فهو محجوب، وعبّر البسطامي عن هذه الفكرة في مقولة عكست ما ينشده العارف من آخرته بقوله: "الله عباد لو بدت لهم الجنّة بزينتها لضجّوا منها كما يضجّ أهل النّار من النّار"، وهذا الانصراف عن زينة الآخرة له غاية واحدة هي طلب الحق،ّ لذلك فضّل البسطامي جنة معرفة الخالق ووصاله وقربه منه، مثلما أنّ أعلى فائدة المحبّ وجود محبوبه.
ولم تنهض فيهم الجنّة طموح المـُلْتَذّ إلى الحور والقصور والخمور، لأنّ مفهومها تعرّى عن جانبه المادّي وانتفت النّظرة البراغماتية الّتي تخلقها العبادة بين الربّ والعبد، لأنّ العابد لا يرجو من عبادته الفوز بالجنّة والنّجاة من النّار، وإنّما مبتغاه القرب من الحقّ.
وعبّر الصّوفية عن هذا الالتيّاع لحضرة الحقّ بقولهم: "التصوّف هو الإناخة على باب الحبيب وإن طُرِد عنه" فهذا الطّرد المعنوي لم يُلْقِ بالصّوفي إلى هوّة الاستسلام والانكسار والخيبة، وإنّما أشعل جذوة المحبّة في قلبه، وأنهض همّته نحو العمل والاجتهاد أكثر لبلوغ النّظرة الإلهيّة والمكاشفة الربّانية.
ولكن يجب أن نلفت إلى ما تعكسه هذه المقولة من حقيقة فناء الصّوفي في الحق،ّ عند غلبة حال الوجد عليه لحظة غيّابه عن نفسه وسكرته عن رشده، ومنها إشارة البسطامي: "من عرف االله بُهِتَ ولم يتفرّغ إلى الكلام" لأنّ المجذوب في حالة صعق وقد ينطق بلسان غير لسانه، عند توالي المشاهد الرّوحانية، فيكثر الشّطح ويلغز القول ويخرج عن المعقول، ولذلك حذّر أكابر الصّوفية من البوح بالأسرار الإلهيّة بعد الصحو.
وقد ركز النّفري في كتاب "النّطق والصّمت"، على المشهد الصّامت وعلى لغة النّظر، فالنّطق إنّما يكون للمشهد لا للعبارة، بانتفاء القول، والسّكوت عن التّأويل، فاعتبر الحروف من جملة الحجب، لأنّ الحرف هو السّوى، والخارجون عن أنفسهم هم الخارجون عن الحرف، وفضّل أساطين الصّوفية للمبتدئين الاستماع من الشّيخ كرزق يساق إليهم، أمّا القول فيمثّل ترجمة لفظيّة لتطلّعهم إلى إثبات شيء لأنفسهم، لذلك اعتبر جلال الدّين الرّومي الكلام ثوبا ينبغي أن يخلعه الإنسان، ويمزّقه لأنّه طبل أجوف، فالصّمت وعدم قرع طبل الكلام شيء مطلوب من العاشق تعبيرا منه عن حالة عشقية.
وبهذا ارتبطت المعرفة لدى الصّوفي بالعلم الإلهي، لذلك اختلف منطوقه عن منطوق غيره، فشدّد على الكتمان والصّمت والرّمز وبذلك عَبَّر عن ذائقته الصّوفية في أحوال وجدانية غَـيْبِـيَّة خاصّة صَنَعَتْ وَحْيَ تجاربه الفريدة.
5 - التصوّف قيمة فضلى
إنّ تقسيم الفلاسفة الإنسان بحسب قواه وغرائزه، يقترب ممّا وضعه الصّوفية مصطلحين
عليه اسم "المقامات"، أي مقامات سلوك المريد من أرض بدنه إلى فتوح روحه وسرّه، والتّركيز على ضرورة تسليط الإنسان كامل اهتمامه على الجانب الرّوحي على حساب الجانب الحيواني يتيح أمامه الامتلاء بالألوهيّة وانتشاء نفحاتها، فالسّير في العوالم الباطنية والارتقاء في قوى الإنسان الدّاخلية، هو نفسه الارتقاء في المقامات، وقد أفاد الصّوفية من مقامات السّلوك وأمعنوا في وصفها وشرحها، ونسلوا عنها المفاهيم والمعاني التي أصبحت تشكّل معالم طريقهم.
ومن القيم اليونانيّة الّتي شاد عليها الصّوفية تأسيسهم الأخلاقي، ضرورة معرفة النّفس لاستخراج عناصر الحقّ والخير والجمال، من أجل تحقيق عظمة الإنسان وسموّه، فالتحقّق بالأخلاق الفاضلة مسبوق بالعلم، لأنّه وسيلة لتحقيق الفضيلة وطريقة فعالة لتطهير النّفس والسموّ بالرّوح، ولعلم الأخلاق أساس لا يقوم على الغرائز بل على معرفة النّفس وتقويمها.
إنّ تقسيم الإنسان بحسب قواه النّفسية وأجزائه الطّبيعية البدنيّة، رَنَتْ إلى حقيقة واحدة هي الصّعود نحو الاتّجاه الأعلى المجاوز للطبيعي والمفارق للعموم، ومحاولة الاشتغال على الانعتاق من الجذور التّرابيّة الّتي ترغم الإنسان على التواجد متّصلا بأرضيّته المشتركة مع النّبات والحيوان، من أجل التطلّع إلى سماء إنسانيّته، وهي الحياة الّتي يجدر به أن يبحث عنها ويعيشها بكلّ عظمة وجلال.
وجمع ابن عربي الأخلاق بالنّفس الإنسانيّة من خلال قواها الثّلاث:النّفس الشّهوانيّة المسئولة عن جميع اللذّات والشّهوات الجسمانيّة الّتي يشترك فيها الإنسان والحيوان، وهي قويّة جدّا ما لم يقهرها ويهذّبها، وإلاّ ملكته واستولت عليه، وهو إذّاك يكون بالبهائم أشبه منه بالإنسان، لأنّ صرف النّفس إلى الشّهوات من عادات البهائم، لذا وجب عليه أن يجعلها منقادة إليه ويكون هو مالكها، فيستعملها في حاجته الّتي لا غنى عنها، ويكفّها عمّا لا حاجة له منها، أمّا النفس الغضبية فهي اشتراك بين الحيوانيّة والإنسانيّة، وهي أقوى من النّفس الشّهوانيّة وأضرّ بصاحبها، لأنّها إذا استولت عليه كثر غضبه وظهر خرقه وعدم حلمه ووقاره، وأسرع عند الغضب إلى الانتقام، وزاد في التشفّي فأكثر السبّ والفحش، فإذا استمرّت هذه العادات في الإنسان كان بالسّباع أشبه منه بالنّاس، فإذا أدّب نفسه الغضبيّة وقمعها كان رجلا حليما وقورا عادلا محمودا، أمّا النّفس النّاطقة الّتي تميّز بها الإنسان عن سائر الحيوان، فهي الّتي شَرُفَ بها الإنسان وعَظُمَت همّته، وهي الّتي بها يستحسن المحاسن ويستقبح القبائح، وبها يمكن للإنسان أن يهذّب قوّتيه السّابقتين ويكفّهما ويضبطهما، وبها يفكّر في عواقب الأمور، وفضائل هذه النّفس، اكتساب العلوم والآداب وكفّ الرّذائل، وسيّاسة صاحبه في معاشه ومكسبه ومروءته، وفعل الخير والحلم والحياء والنّسك والعفّة وطلب الرّئاسة من الوجوه الجميلة، فإذا فعل ذلك صار بالإنسانيّة متحقّقا وللرّئاسة الذّاتية مستحقّا.
إنّ أعظم ما خطّه أساطين الحكمة والفلسفة، تواشج مع ما كتبه الصّوفية في باب الأخلاق، ذلك أنّ ملاك الأمر في تهذيب الأخلاق وضبط قوى الإنسان تقويّة النّفس النّاطقة بالعلوم العقليّة ودرس كتب الأخلاق والسّياسة، وأنّ الإنسان التّامّ هو الّذي لم تفته فضيلة ولم تشنه رذيلة، وهذا الحدّ قلّما ينتهي إليه الإنسان، وإذا انتهى إليه آان بالملائكة أشبه منه بالنّاس.
وتجدّد طرح المعادلة بين النّفس والشّهوة لدى المتصوّفة، ففي المكاشفة ذكر أبو حامد الغزالي وجوب قهر الشّهوات النّفسانية وقمعها، فالنّفس صنم فمن عبد النّفس عبد الصّنم، ومن عبد االله بالإخلاص فهو الّذي قهر نفسه، فالشّهوة تصير الملوك عبيدا والصّبر يصير العبيد ملوكا، ولذلك كان أفضل الجهاد عندهم جهاد النّفس، واعتبارا لميزان العقل والشّهوة تحدّدت معالم أنواع المخلوقات من ملائكيّة وإنسانيّة وحيوانيّة، فقد خلق االله الملائكة وركب فيهم العقل ولم يركب فيهم الشّهوة، وخلق البهائم وركب فيها الشّهوة ولم يركب فيها العقل، وخلق بن آدم وخلق فيه العقل والشّهوة، ومن هنا تجلّت أهمية النّسب وتوزّعها في تحديد طبيعة الإنسان، فمن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه، ومن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة.
إنّ معالجة الأساس التّنظيري الأخلاقي عكس مدى مقاربتها مع صيغ الصّوفية ومقولاتهم، وإذا كانت أغلب نظريّاتهم منشطرة عن التّأسيس الفلسفي اليوناني، إلاّ أنّهم طوّروا عنها مفاهيمهم الخاصّة، وكانت العقيدة مصدر وحيهم وإلهامهم في استنباط قيم الأخلاق الفاضلة.
ويمكن أن نلج قيم الفضيلة من مقولة أوردها أبو نعيم الأصبهاني، شكّلت البساط الممدّ إلى المعاني الأخرى، وهي أنّ التصوّف: "ابتغاء الوسيلة، إلى منتهى الفضيلة".
وهذه الفضيلة تجزئ الصّوفي الالتزام بالشّمائل والتحقّق بالفضائل، فاعتنوا بفنّ عمارة الظّاهر والباطن، لنيل السّعادة الأبديّة، وأخذت العبادة معنى خاص،ّ كالّتي تجسّدت لدى النفري في قوله: "إنْ عَبَدْتَني من أجل شيء غيري أشركتَ بي"، فعبادة أوليّائه لا تكون لخوف ولا لطمع، لأنّ في ذلك شرك.
وقد يسّرت لهم المشاركة الأخلاقية السّبيل إلى المشاركة الاجتماعيّة، بتفعيل المبدأ الأخلاقي: "المؤمن مرآة المؤمن"، فاتّخذوها معيارا لسلوكهم الاجتماعي، وكان على المريد أن يوسّع حبّه ليشمل كلّ الخلق، بالتخلّص من الأنانيّة وحبّ التملّك، وإلاّ فَقَدَ درجته الرّوحية، وكيف له أن يقول ملكي وهو يعلم أنّ االله مالك كلّ شيء.
فالصّوفي من أسقط الياءات الثّلاث، فلا يقول: لي، ولا عندي، ولا متاعي، أي لا يضيف لنفسه شيئا.
وحين دعا السّادة الصّوفية إلى الزّهد في الدّنيا، ظنّ النّاس خطأ أنّهم دعوا إلى الفقر وعدم امتلاك المال، وهو ظَنٌّ ليس من الصّواب في شيء، لأنّهم قالوا بصريح العبارة: "ليس الزّهد أن تترك الدّنيا من يدك وهي في قلبك، بل الزّهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك"، لإدراكهم أنّ الزاهد وإن بدا فقيرا فهو غنيّ بخروج الدّنيا من قلبه وإن كانت في يده، أمّا الفقير فقد لا يكون زاهدا مع فقره لاستشرافه الدّنيا وتعلّق قلبه بها وانشغاله بحبّ زخرفها، فالزهد لدى السّادة الصّوفية ليس هو فقر الجيب بل هو خروج حبّ الدّنيا من القلب، والفقر الحقيقي الّذي عناه كبار الصّوفية هو الفقر من المادّة أي التجرّد عنها نتيجة التجرّد عن الدّنيا، والتروحن المستمر حتى يرى في وجوده وعمله وماله فضلا من االله وامتنانا محضا.
إنّ ما اشتمل عليه باب الفضيلة لدى الصّوفية يصبّ فيما يعرف بأدب السّلوك، وهو مسلك يقوم على التزام حدود الشّرع ومراقبة االله كما ينبغي، سرّا وعلنا، ومعرفة حقوق الشّيخ.
وإذا كان فلاسفة اليونان قد أفاضوا الحديث في سيّاسة الذّات، فإنّ الصّوفيّة قد زادوا على تلك المبادئ ما يبني منهجهم في تربية النّفس وتهذيبها والوصول بها إلى التخلّق بأخلاق الذّات العليّة، وما هذا التمثّل الرّوحي لأسمائه وصفاته الجليلة، إلاّ حلقة تفضي بالصّوفي إلى تحقيق الكمال الإنساني والسموّ الرّوحي بطريق الكشف والفناء.
وقد بُنِي التصوّف لدى الجنيد على ثمان خصال، اقتداء بثمانية أنبيّاء -عليهم السّلام- الّذين هم قدوة الصّوفية، وهذه الخصال ملخّصة هي: الاقتداء في السّخاء بإبراهيم لأنّه بلغ أن ضحّى بولده، وفي الرّضى بإسماعيل لأنّه سلّم لأمر االله، وفي الصّبر بأيّوب لأنّه صبر على بلائه بالدّود، وفي كلام زكريّا للنّاس رمزا، وفي الغربة بيحيى الذّي كان غريبا في وطنه وغريبا في أهله، وفي السّياحة بعيسى لأنّه كان في سيّاحته من التجرّد، حيث لم يكن يملك إلاّ وعاء ومشطا، ألقاهما بعد أن رأى رجلا يشرب بحفنتيه، ورجلا آخر يخلل شعره بأصابعه، وفي لبس الصّوف بموسى عليه السلام، وفي الفقر بسيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم ٠وهذه الأخلاق الّتي ظهر عليها الأنبيّاء هي "الأخلاق الكبرى" وهي جماع أخلاق الصّوفية، لأنّهم بلغوا بها مراتب الأحبّاء والأخلاّء الأصفيّاء.
6 - التصوّف أحوال وجدانية غيبيّة خاصّة
تبيّن من عرض القيم الاجتماعية، الفرديّة، المعرفية والأخلاقية... من أنّ التصوّف لا ينطوي على قيمة ثابتة بالمعنى الجامد، وإنّما هو مجموعة قيم متغيّرة أو متحوّلة، وأكثر ما يثبت ذلك، آونه بالدّرجة الأولى عبارة عن أحوال وجدانية خاصّة، وتجارب فريدة، وهو ما نعرضه في هذه الجزئيّة من الدّراسة.
تنطلق الباحثة نظلة الجبّوري في تعريفها للتصوّف من أنّه: "حاصل جمع ما تركه الصوفية من تجارب ذاتية، وخبرات شخصية، ومعاناة وجدانية حيّة" ونحن بدورنا نستطلع هذه التّجارب والخبرات والمعاناة الوجدانيّة، الّتي يمرّ بها الصّوفي في حياته المليئة بالخصوصيّة والتفرّد.
إنّ ما نعنيه بخصوصيّة الحياة الصّوفية وتفرّدها، يتوافق مع قدرة كلّ صوفي في خلق
نموذجه المتميّز عن غيره، وهذا ما يأخذنا إلى فحص طبيعة الأحوال الّتي تَرِدُ على الصّوفي، وتلوّن حياته الوجدانية الباطنيّة.
فالحال هو ما يحلّ بالقلوب أو تحلّ به القلوب من صفاء الأذكار، وبتعريف نجم الدّين الكبرى "هو زاد وشراب ومركب بها يتقوّى السيّار، ويستعين في سفره المعنوي إلى مطلوبه الكلّي، وهو قوّة الرّوح أو القلب أو النّفس من باق في باق إلى باق، وهو بمنزلة الجناحين للطّير". وهو ما وَقَرَ في قلب العبد من طرب أو حزن أو بسط أو قبض، دون أن يقدر على ردّه، حين يأتي أو إعادته حين يغيب، ولذلك اعتبرت الأحوال وهبيّة لا كسبيّة؛ فهي مواهب فائضة على العبد من ربّه إمّا ميراثا للعمل الصّالح المزكي للنّفس، وإمّا نازلة من الحقّ امتنانا محضا، وإنّما سمّيت أحوالا لتحوّل العبد بها من الرّسوم الخلقيّة ودركات البعد.
ومن الأحوال ما يبعث على البهجة والسّرور والنّشاط والانبساط والامتلاء الرّوحي، كحال "الأُنس"، وهو نقيض الوحشة، الّذي يخلقه البُعد عن االله، لذلك أحالوا أنفسهم على بذل المجهود للأنس بالمعبود، وتمام الأنس بالطّاعات والموافقات، ومحاذرة الوحشة الّتي تكون بالمعاصي والمخالفات، فمن طالعه حال الأنس أدرك أنّه يكون باستحباب الفضائل واستكراه الرّذائل، فيحوز المنح والمواهب، بلا كلفة المكاسب والمتاعب. ومنها "الانبساط"، ويكون بفرط السّرور في طلب السرّ والجرأة على المحو لطلب التمكّن.
ومن الأحوال ما يبعث الصّوفي على الحرارة والالتيّاع، فقد ظَلَّ التصوّف قرين التعرّض
للّهبات الحارقة والجمرات الصّاعقة، كأحوال الوجد والمحبّة والشّوق، فالوجد شعلة متأجّجة من نار العشق، وهي نار في القلب ينبعث منها لطلب الحق، والشّوق ثمرة المحبّة فمن أحبّ االله اشتاق إلى لقائه، فإذا استقرّت المحبّة ظهر الشّوق، ونتج عنه احتراق الحشا وتلهّب القلوب وتقطّع الأكباد من البُعْد بَعْدَ القُرْب.
وعبّر بعضهم عن تباريح الشّوق بقولهم: "التصوّف هو مكابدة الشوق إلى من جُذِبَ إلى الفوق"، وزادوا عليه أنّه: "الاحتراق حذار الافتراق، والاشتياق لدار الاستباق" وجميع هذه اللّواعج موطنها القلب باعتباره بيت االله، فاعتنوا بتصفيته وتزكيّته وتطهيره استعدادا لوقور المحبّة الإلهيّة فيه، فهو يناظر بيوت االله في بنية الإنسان، لذلك حرصوا على ألاّ يسكن بيوت االله فيهم، إلاّ هو سبحانه.
وخَصَّت المحبّة بموقف إلهي، فهي رقائق أنوار قلوب العارفين باالله، ومسكنها القلوب المتلوّنة بتلوين كلّ محبوب، ولا تقتصر المحبّة على طرف واحد، فكما أنّ لها وجهة قلبيّة حِبّية من الخَلْق إلى الحق،ّ فإنّها كذلك عروة ممتدّة من الحقّ إلى الخَلْق: "خلقت كلّ شيء بتوجّه:"كن"، إلاّ الإنسان فإنّي خلقته بيدي، وجعلت قلبه فلك المحبّة الذّاتية"، وتقتضي المحبّة نهوض الهمّة وقوّة العزيمة، فَمَنْ مَلَّتْ همّته ضَعُفَتْ محبّته، وجعلها الشّبلي صراط الأوليّاء، فقال في الفرق بين رقّ العبوديّة ورقّ المحبّة: "آَمْ بَيْنَ عَبْدٍ إذا أُعْتِقَ صار حُرّا، وعَبْدٍ كلّما أُعْتِقَ ازداد رِقّا"، فالمحبّة كأس لها وهج، إذا استقرّت في الحواسّ قَتَلَت،ْ وإن سَكَنَتْ في النّفوس أَسْكَرَت،ْ فهي سُكْرٌ في الظّاهر، ومحبّة في الباطن.
ومن الأحوال ما يبعث على الانخلاع عن الذّات، كالفقد والوجد و السُّكر والغيبة والفناء، فالسُّكر استيلاء سلطان الحال وهو لأرباب القلوب، وقد وصف البسطامي تجربته مع هذا الحال في مشهد عرفاني مُتْرَع بالغيبة والفناء: "سَكِرْتُ وما شَرِبْتُ من الدّرر، وغيري قد شرب بحور السّماوات والأرض وما رَوِيَ بَعْد،ُ ولِسانُه مطروح من العطش ويقول هل من مزيد"، لذلك كان العطش لدى الكاشاني، معادلا عرفانيّا للاتّصال والخلاص من الانفصال .
ونادى أبو بكر الشّبلي في أحواله بسكرة تغني عن ملاحظة النفس والأفعال والأحوال والأكوان وما فيها! ورسموا الوجود في صورة كأس مُلّئ بذوق كلّ شراب، وهذا الشّراب هو بمنزلة تجلّي الأخلاق والصّفات القديمة في الصّورة الوجودية من الجسد الكلّي، وترمز حركته الدّائريّة إلى دورانه على مرائي الذّات الإنسانيّة، أمّا ينبوعه فعين جارية، عصرتها يد الأفعال في دِنان استوت من حكمة الحكيم الخبي.
ومن الأحوال الّتي يفنى فيها العبد عن نفسه "الغيبة"، وهي غيبة السّالك عن رسوم العلم لقوّة نور الكشف، والغيبة تكون عن الخَلْق وأفعالهم والنّظر إلى أمورهم وأقوالهم، وعن الأكوان والإمكان لشهود نور الأزل بالعيان، وممّا يشتقّ من الغيبة "الدّهش" وهي بهتة تأخذ العبد إذا فاجأه ما يغلب عقله أو صبره أو علمه، التحيّر في صفات االله وأخلاقه، وفي علم الحق وحكمته.
وأقصى غايات السّالك بلوغ الاتّصال، فالانفصال عن الكونين هو شرط الاتّصال، والحضور مع االله بسلامة الفطرة والاعتصام باالله بتصحيح القصد، والاستغراق في الأحديّة، يقول البسطامي: "إنّ أهل الحجّ يطوفون بالبيت فيطلبون البقاء، وأهل المحبّة يطوفون حول العرش يطلبون اللّقاء".
وكانت رغبة الصّوفي المحمومة في طلب اللّقاء ورهبته الشّديدة من الفراق هي الباعثة على استغراقه في أحوال الوله والسّكر، وهو ما أسلم بعض الصّوفية إلى مقاساة القلق والاضطراب، حتّى أصبحت المعاناة لدى بعضهم، علامة دالّة على الصّوفي وعلى حقيقة.
التصوّف ظاهرا وباطنا، في تعريف أحدهم: "التصوّف اضطراب، فإن وقع سكون فلا تصوف" وكثيرا ما كانت الأحوال الغالبة على الصّوفي المغيّبة لعقله، تدفعه إلى غريب العبارات فيما عرف بلغة الشّطح، ولهذا حرص بعض الأقطاب على التزام الكتمان، وعدم البوح بالأسرار والمشاهدات، ومنهم النّاصحين أبو بكر الشّبلي، فالتصوّف: "وله في سكر، والواله لا يدري ما يطلب، والسّكران لا يعقل ما يقول"، وقد ظلّ يخاطب مريديه: "حفظ الأسرار، صونها عن رؤية الأغيار" وأكد على ذلك في موضع آخر: "الأسرار ! الأسرار ! صونوها عن الأغيار".
وقد ساقتهم الأحوال إلى الخروج عن المعالم الإنسانيّة الواضحة، فلم يعد البعد عن النّاس والأنس بالخالق يشفي ظمأهم، بل أوصلهم هجوم الخواطر وغلبة الحال إلى فناء شامل عن النّفس والعقل والحسّ والكون، ممّا دعا إلى ضرورة رسم معالم الإنسانيّة على التصوّف من جديد، بإعادة بناء الإنسان وربطه بمولاه في آل فكر وقول وعمل ونية.
ولكن هل نجح الصّوفية في التّوفيق بين مدارجهم الحياتيّة ومعارجهم الإلهية؟ إنّ الاشتغال على الحضرتين من تمام الخبرة ومن شرط الكمال، لذلك وجدنا كلّ أمورهم قائمة على نفي النّقيض والجمع بين الأضداد، آمجموعة العلاقات المتكوّنة من (اجتماع / عزلة(، )حرية /عبودية(، )خلق / معاملة(، )علم / عمل(، )نطق / صمت(، )إشارة / تصريح(، )سماع /مشاهدة...) فالصّوفي يتوسّط الطّرفين لأنّه يرى الحياة في تعايش الأضداد، وأمّا الموت فأن ينشب الحرب بينها )[حسّون].
لقد دعا الرّعيل الأوّل من الصّوفية إلى التجرّد وعدم الزّواج، لما اعتقدوه من عدم التّوافق بين الحياة الرّوحية الّتي تستلزم المجاهدة والانقطاع إلى االله، والحياة الدّنيوية القائمة على طلب الرّزق والادّخار والحرص على المال والاهتمام بمتطلّبات الأهل والولد. ومن ثمّ رأوا عدم إمكان الجمع بين هاتين الحالتين المتعارضتين، ولكنّ إذا أخذنا الإطار الزّمني العاكس لبدايات التصوّف، ينتفي التّهويل، ومن ثمّ لا يمكن الحكم بإخفاقهم في التّوفيق بين معادلة الحياة، بكلّ ما يعنيه معتركها من جدّ وكدّ وكسب، وبين التعبّد بكلّ ما تعنيه رباطاته من نسك ومجاهدة النّفس ومغالبة العوارض الحسّية والقواهر الدّنيوية.
وأمام الرّحلة الّتي خاضها أقطاب الصّوفية في العالم إلى وقتنا الحاضر تنتفي الثّنائيّات المحرجة، وينكشف النّقاب عن النّضج العلمي والوفرة الخبراتية الّتي انتهى إليها التصوّف وما زال أرباب الصّوفية إلى اليوم يبحثون عن أصول تطوّره في كلّ عصر وظرف وفي جميع العلوم الانسانية.
إنّ التصوّف ظاهرة دينيّة تتّسم بالعالميّة، فلا تتقيّد بحدود الزّمان والمكان، والأجناس واللّغات والأديان، لكنّ عالميّتها مستوحاة من عالميّة الرّسالة السّماوية، لا من لوائح الغرب وبنود مشاريعهم.
..............
مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الانسانية)
ليلى قــراوزان، ومحمد زمري
قسم الأدب العربي، آلية العلوم الإنسانية، جامعة أبي بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر