آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التصوف ليس دروَشة

التصوف ليس دروَشة

الصورة الذهنية الشائعة عند كثير من المسلمين في واقعنا الراهن أن التصوف يمثل نزعة دينية متطرفة تخرج عن صحيح الدين، وهي صورة ساهم في شيوعها تفشي التيارات السلفية في العالم الإسلامي المعاصر. ولكننا عندما نتأمل حقيقة الأمر سنجد أن التيارات السلفية في شتى صورها هي التيارات الدينية المتطرفة، وأن التصوف الحق هو أحد سبل مواجهة هذا التطرف الديني، وهو ما نحاول البرهنة عليه في هذا المقال. 

أما القول بتطرف التيارات السلفية، فهو أمر ظاهر للعيان لا يحتاج إلى كثير من البرهان؛ لأنه يتمثل أمام أعيننا في وجوه عديدة: فهو يتمثل بوجه عام في تفسير جامد للدين لا يتعلق بروحه أو جوهره؛ ومن ثم لا يستطيع أن يفهم حقيقة النص الديني، ويعمل بقوة على تغييب الوعي الديني؛ بل إنه يستخدم الدين من أجل السلطة والهيمنة على أحوال البلاد والعباد، مهما ادعى بعض السلفيين تحريم الخروج على الحاكم. ولأجل بلوغ غايته هذه، فإنه يستخدم كل أشكال العنف الناعم والعنف غير الناعم الذي يبلغ حد التكفير والتدمير و«القتل على الهوية» لكل من يختلف معه في عقيدته المصطنعة التي يريد من خلالها أن يحتكر فهم الدين وتفسيره. ولقد تفشى عنف هذه التيارات السلفية، لا في عالمنا العربي فحسب، وإنما أيضًا في كثير من بقاع العالم، بما في ذلك العالم الغربي المتحضر. وقد ترتب على ذلك أن الإرهاب أصبح مقترنًا باسم الإسلام، بحيث أصبحنا نسمع تعبير «الإرهاب الإسلامي» السائد في الغرب الآن على ألسنة الشعوب والقادة؛ ولا يهم كثيرًا أن نقول: إنه إرهاب صادر عن بعض المسلمين وليس عن الإسلام ذاته؛ لأن المهم في النهاية أن مصدره هو العالم الإسلامي، وأن من ينفذه هم أناس يدينون بدين الإسلام. فلا نلومن إلا أنفسنا على حالة تغييب الوعي الديني في عالمنا الإسلامي التي أفضت إلى كل هذا التطرف والعنف، ولا ينبغي أن نريح أنفسنا هنا بإرجاع الأمر إلى نظرية المؤامرة التي تذهب إلى القول بأن الإمبريالية الغربية هي التي ترعى هذه التيارات؛ لأن هذه الإمبريالية لم تكن تفلح في ذلك لو لم يكن العالم الإسلامي (خاصةً العربي) على هذا النحو من الضعف والتفتت بحيث تتفشى فيه تلك التيارات أو الفرق الدينية التي لا تكتفي بأن تكفر غيرها، بل تكفر وتقاتل بعضها بعضًا باسم الدين. 

أما قولنا بأن التصوف الإسلامي هو أحد السبل المهمة لمواجهة سائر أشكال التطرف الديني، فهو ما سنحاول البرهنة عليه فيما يلي، وهو ما يقتضي منا أن نعرِّف القارئ العام بأمور تتعلق بمعنى التصوف الإسلامي وغاياته. وينبغي أن نستبعد أولًا تلك الصورة الذهنية النمطية التي وقرت في أذهان العوام عن المتصوف باعتباره ذلك الدرويش الذي يرتدي أسمالًا قذرة بالية، ويهذي بكلمات غير مفهومة وبلا معنى! فالحقيقة أن المتصوف هو من خواص الناس الذين يعايشون تجربة روحية عميقة تتجاوز ظاهر الشريعة إلى حقيقتها الباطنية. والتصوف هو حياة روحية تسعى إلى ارتقاء النفس أخلاقيًا من خلال مجاهدات عملية للنفس والجسد معًا، إذ يرتقي الصوفي عبر درجات من المعرفة الذوقية تعرف عند المتصوفة بالأحوال والمقامات التي تبلغ عند البعض منهم مقام الفناء في الله. ولأن هذه المعرفة ليست عقلية وإنما تحدث من خلال خبرة ذوقية؛ فإنه يصعب التعبير عنها إلا من خلال لغة رمزية تقربها من أفهامنا؛ ولذلك قيل إنه لكي يعرف المرء حلاوة العسل أو مذاقه، لا بد له من تذوقه!

ولقد مر التصوف الإسلامي كحركة روحية بمراحل عديدة، أولها حركة الزهد في القرن الأول الهجري مع الزهاد الأوائل من أمثال الحسن البصري؛ وتطورت هذه الحركة وتعمقت لتعبر عن نفسها في القرنين الثاني والثالث الهجريين في الحب الإلهي عند متصوفة من أمثال رابعة العدوية، وفي حالة البقاء والفناء في الله عند الجنيد والحلاج؛ ثم انتقلت حركة التصوف في القرنين الرابع والخامس إلى ما يُعرَف بالتصوف السني الذي تمثلت أعظم صوره عند الإمام أبي حامد الغزالي؛ إلى أن بلغ التصوف أعمق مراحله في القرنين السادس والسابع فيما يُعرف بالتصوف الفلسفي الذي امتزجت فيه الاستبصارات الصوفية بالنظرات الفلسفية، وهو التصوف الذي يعد محيي الدين ابن العربي أعظم ممثليه. ومنذ ذلك الحين نشأ ما يعرف بالطرق الصوفية التي انتشرت في العالم الإسلامي وتطورت عبر الزمان حتى يومنا هذا. 

ولا شك أن كثيرًا من متصوفة الإسلام قد عانوا غالبًا جور واستبداد أنظمة الحكم عبر العصور، ويمكن القول إن حركة الزهد في القرن الأول الهجري قد نشأت كرد فعل على ظلم واستبداد بني أمية. ويمكن القول أيضًا إن بعضًا من المتصوفة قد وقع عليهم ظلم بيّن من جانب الفقهاء الذين كفروهم واستعدوا عليهم السلطة القائمة، وقد بلغ هذا الظلم مبلغه حتى وصل إلى حد القتل كما هو معلوم عن مأساة الحلاج وغيره. كما كان ابن عربي مغضوبًا عليه في الأندلس، مما دفعه إلى الفرار إلى مكة ومصر وبلاد الشام. ومع ذلك، فلم يكن التصوف في حد ذاته مدفوعًا في يوم ما بخدمة أغراض سياسية؛ فالمتصوف- بخلاف غيره من التيارات الدينية السلفية التي يموج بها العالم الإسلامي- لا يسعى إلى سلطة ولا يبتغي مصلحة دنيوية، بل هو يسعى إلى التخلي عن كل ما يربطه بعلائق الدنيا أو التشبث بها.

والواقع أنه كان هناك خلاف دائم بين المستشرقين حول أصل التصوف الإسلامي، فمنهم من أرجعه إلى أصول يونانية، ومنهم من أرجعه إلى أصول مسيحية، ولكن أغلب المستشرقين قد عدلوا عن هذه الآراء، وأصبح الرأي الغالب هو الاعتراف بالقرآن والسنة كمصدر للتصوف الإسلامي؛ وإن كان هذا لا يتعارض مع القول بتأثره بالتصوف في ديانات أخرى. وهذا يرجع- بطبيعة الحال- إلى ما هنالك من وشائج قربى جوهرية بين أشكال التصوف في كل دين، وفي كل زمان ومكان. فالتصوف في جوهره تجربة روحية عميقة تسعى للارتقاء بالنفس الإنسانية والسمو بالأخلاق، وهذا يصدق على التصوف الإسلامي مثلما يصدق على غيره. وربما يفسر لنا هذا السبب في أن التصوف هو المدخل لتحقيق التسامح بين الأديان، ونبذ التعصب الديني الذي يعكس كراهية الآخر المختلف في العقيدة، وهي الكراهية التي بلغت عند السلفيين حد الدعاء على أصحاب الديانات الأخرى في خطب صلاة الجمعة على رؤوس الأشهاد ، ومثل هذا الدعاء لا صلة له بالإسلام، وإنما بالكراهية والعنف. وهو ما رسخ الصورة السائدة عن الإسلام في الغرب باعتباره دين العنف، بل رسخ الفرقة والعداوة بين فرق التيار السلفي التي انقسمت على نفسها وراحت تكفر وتقاتل بعضها بعضًا. بل يمكن القول إن تفشى هذا التيار في العقود الأخيرة قد عمل على ازدياد الإلحاد بين الشباب في العالم الإسلامي. وفي مقابل ذلك، فقد ساهمت الفرق الصوفية فيما مضى في نشر الإسلام في كثير من بقاع العالم.

وفضلًا عن ذلك، فإن التصوف الإسلامي يمتاز بميزة أخرى عظيمة في مواجهة التطرف الديني، وهي ارتباطه بالفن والأدب: فبينما يعادى السلفيون الفن، نجد أن كثيرًا من الطرق الصوفية تلجأ إلى التعبير عن المواجيد الصوفية من خلال فنون كالرقص الديني التعبدي الذي يصاحبه الغناء على إيقاعات موسيقية معينة. ولم يكن هذا الارتباط بين التصوف والفن مقصورًا على التصوف الإسلامي، بل كان شائعًا- ولا يزال- في أشكال التعبد في الديانات المختلفة عبر العصور. ولقد أنتج التصوف الإسلامي أدبًا رفيعًا له خصائصه المميزة، آلت إلينا من خلال الكتابات المعروفة بطبقات الصوفية ورسائلهم، وتمثل ذلك في النص الأدبي الصوفي المعبَّر عنه شعرًا ونثرًا. ولم تكن ظاهرة النص الصوفي الأدبي مقتصرة كذلك على التصوف الإسلامي، بل إنها تمتد لتشمل أيضًا ديانات غير سماوية مثل: كتب ال?يدا الهندية المقدسة المكتوبة بأشعار تنتمي إلى اللغة السنسكريتية القديمة، وكذلك النصوص البوذية، وأشعار لاوتسي. وتفسير تلك الظاهرة أن التجربة الروحية الصوفية هي تجربة ذوقية خاصة لا يمكن التعبير عنها من خلال اللغة العادية، وإنما من خلال لغة رمزية خاصة يكتنفها الغموض والتلميح والإشارات. 

وخلاصة القول مما تقدم أن التيارات السلفية التي نشأت وترعرعت في عالمنا العربي لتمتد بعد ذلك في بقاع عديدة من العالم الإسلامي، هي نتاج لحالة من التخلف الحضاري الذي يفقد فيه الدين قوته الروحية والأخلاقية، ويتحول إلى دين كئيب عبوس يقوم على سلطة الزجر والعقاب والعنف الدموي. وفي مقابل ذلك، فإن التصوف يعبر عن صلة روحية عميقة بين الفرد وربه، بمنأى عن أي سلطة سياسية أو دينية؛ ولهذا فإنه يعبر عن حقيقة الدين في أسمى صوره باعتباره طاقة روحية وقوة أخلاقية.

الصورة النمطية.. درويشاً يهذي!

ينبغي أن نستبعد أولاً تلك الصورة الذهنية النمطية التي وقرت في أذهان العوام عن المتصوف باعتباره ذلك الدرويش الذي يرتدي أسمالاً قذرة بالية، ويهذي بكلمات غير مفهومة وبلا معنى! فالحقيقة أن المتصوف هو من خواص الناس الذين يعايشون تجربة روحية عميقة تتجاوز ظاهر الشريعة إلى حقيقتها الباطنية.

مدخل التسامح بين الأديان

التصوف في جوهره تجربة روحية عميقة تسعى للارتقاء بالنفس الإنسانية والسمو بالأخلاق، وهذا يصدق على التصوف الإسلامي مثلما يصدق على غيره. وربما يفسر لنا هذا السبب في أن التصوف هو المدخل لتحقيق التسامح بين الأديان، ونبذ التعصب الديني الذي يعكس كراهية الآخر المختلف في العقيدة.

د. سعيد توفيق

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية