آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التصوف موجود منذ صدر الإسلام بروحه وهديه

كان التصوف موجودا في صدر الإسلام بروحه وهديه، وآدابه وخلقه، وترفعه وزهده، وعباداته وطاعاته، وذكره ومناجاته، كان موجودًا بجوهره لا بمصطلحاته، وقائما بكلياته لا بجزئياته.

كان التصوف في صدر الإسلام هو هذا الروح الديني المهيمن المسيطر على حياة المسلمين كافةً، الموجه لحركاتهم وسكناتهم، الصاعد بأعمالهم ونواياهم، إلى خالقهم ومولاهم.

كان هذه الرقابةَ الحيةَ اليقظة التي أقامها كل مسلم في أعماقه، ليراقب ما توسوس به نفسه، وما يَصطِرع في قلبه، وما يتواثب في نفسه، وما يخفي صدره، وما تطرف به عينه.

كان هذا الترفع الشامخ عن شهوات الدنيا وزخرفها، والإعراض عن بريقها وفتنتها، والزهد في ترفها ومظاهرها، والتسامي بكل ما فيها إلى وجه الله، حتى يظفر بحبه ورضاه، وقربه وهداه لأن الدنيا لا تزن عنده جناح بعوضة، ولأن الآخرة خيرٌ وأبقى.

ثم مشت الحياة بالمسلمين، وفتحت عليهم الدنيا، وابتعدت مسامعهم عن نغمات الوحي، وتفرقت قلوبهم عن الميثاق والعهد، وانحلَّت العزائم، وفترتِ الهمم، وتسارعت الناس إلى المال والجاه، ولهو الحياة، ونشأت الفتن، واختصموا على المُلك، وتصارعوا وتباغضوا، وتشعبت بهم السبل.

ونشأت تبعًا لذلك، حركات مضادةٌ ، ورسالات مجاهدةٌ، صمدت في وجه العاصفة.
ويحدثنا تاريخ النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، عن وعاظ ومرشدين، وقفوا على أسوار القرآن، ومعالم السنة، ينذرون الناس ويدعونهم إلى ربهم ودينهم، تميزهم شجاعةٌ نفسيةٌ عاليةٌ، أعانتهم على مواجهة الجبروت والاستبداد الذي بدأت طلائعه في أفق الحياة الإسلامية.

وبجوارهم رأينا طائفةً من الزهاد، الذين وقفوا في وجه فتنة الترَف والإسراف، وأخذوا يديرون لحونهم وأحاديثهم، حول فضائل النفس، وآداب الحس، وتزكية الجوارح، والزهد في الدنيا، وهوان أمرها، وزوال نعيمها، وضلال شهواتها.

ثم رأينا العباد المتبتلين، الذين انقطعوا إلى طاعة الله، وعبادته وذكره، وأحالوا الكون إلى محاريب للصلاة والمناجاة، ومنابر للتحدث عن نعم الله، وعن عظمته وجلاله، والأنوار التي يفيضها على الساجدين المتطهرين.

ومن هؤلاء وهؤلاء، تكون الرعيل الأول، من الصفوة الربانيين، الذين عرفوا في التاريخ باسم الصوفية، أو كما يقول ابن خلدون: «اختص المقبلون بأنفاسهم على الله باسم الصوفية».

ثم ابتدأت تتكون لهذه الطائفة ثقافةٌ إيمانيةٌ، لها لونها وطابعها وخصائصها الفنية. ثقافةٌ تدور حول ذكر الله وإلهاماته، ومجاهدة النفس، وما ينبثق من هذه المجاهدات، من آداب السلوك، ومقامات السير، ويتوج كل هذا الصلة بالله سبحانه، وما يترقرق حول هذه الصلة، من أذواقٍ ولحون، ومواجيد وأشواق، ثم ثمرة هذا كله، وهو المعرفة الباطنية، ىوما تفيض هذه املعرفة من علومٍ وأنوار.

ومن ثم بدأت الحياة الروحية، تنفصل عن الحياة العامة، وتستقل بمناهجها ومعارفها، وابتدأ الصوفية يصطنعون، كلمات تحدد أذواقهم، وتعبر عن شعورهم، وأخذ أفق هذه الكلمات يتسع لمعانٍ متعددةٍ ، وكانت كل كلمة تُضاف إلى التصوف، تفتح أفقًا جديداً ، وتتناولها ألسنة الصوفية، فتفتقها وتبتدع لها صورا وألوانًا وأذواقاً.

ثم أخذوا يُكونُون لهم فلسفةً في الأخلاق، وفي السلوك، وفي العبادة، وأخذوا يجردون الأسباب من قوتها، ويرجعون كل شيء إلى الله سبحانه، فأكسبهم ذلك عزةً خلقيةً، وسعادةً، قوامها الرضا بقضاء الله وقدره، واليقين بأن لا سلطان لقوة من قوى الأرض على مصائرهم وحياتهم، أو كما يقول إبراهيم بن أدهم: «نحن في لذَّةٍ لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيف».

كما أفاضت عليهم الثقة بالله والتوكل عليه، شجاعةً نفسيةً، وقوةً إيمانيةً، لا تسامقها قوةٌ ولا شجاعةٌ، يقول إسحاق بن إبراهيم السرخسي: «سمعت ذا النون المصري، وفي يده الغل، وفي رجليه القيد، وهو يُساق إلى المطبق، والناس في بغداد يبكون حوله، وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى، ومن عطاياه، وكل فعله عذبٌ حسنٌ طيب».

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية