قال جلَّ قوله : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} فهذا حبٌّ موجود معبر عنه {فَاتَّبِعُونِي } وفي اتباعه صلى
الله عليه وسلم حبٌّ زائد على الحب المعبر عنه الحاصل قبل، فكان اتباع الرسول صلى
الله عليه وسلم حب في الله انضاف إلى حبِّ الله الذي هو الأول، والذي به ومنه
خوطبوا.
وهو أيضاً حب على حب؛ لأنهم بذلك أحبوه
- جل وعلا - أو أحبوا من أحب وائتمنوا بمن اصطفى، فأوجب لهم جل جلاله وتعالى علاؤه
وشأنه بذلك مزيد حب، فأظهر جل جلاله الأصلية إشعاراً بذلك، فقال جلَّ قوله : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي : يجعل
لكم حبًّا تحبونه، وتحبوني زيادة إلى حبِّكُم، وحبًّا تحبون به الحب له وفيه، فهذا
معنى تكرار الباء فيما ها هنا، والله أعلم.
الذين يبلغهم الله عز وجل هذه الدرجة
من المحبة هم خصوص الخصوص، وقد قال جلَّ قوله في الذين آمنوا : {يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فهذا الحظ الذي ينال
باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم هو حب مزيد، مُضاف إلى الحب الأول، وحب
للحب الذي هو الله، وفي الله جل جلاله وتعالى علاؤه وشأنه.
يقول الله جلَّ قوله : (إني لأطلع على
قلب عبدي فأجد الغالب عليه ذكري إلا كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به
ويده التي يبطش بها) فهذا هو الحب في الحب والحب للحب.
عبَّر عن ذلك حيث قال جلَّ قوله :
(وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا
أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ
الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه،
ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه).
وإذا تحصَّل هذا للعبد فهو الحب كله
الذي قالوا فيه رضي الله عنهم : "الحبُّ تَعْوِيضُ الصِّفَات" أي : إن
الله جلَّ ذكره يعوضه من صفات نفسه صفاتاً منسوبة إليه - جلَّ ثناؤه - في سمعه
وبصره، وبطشه ومشيه، وكلامه وصمته إلى غير ذلك.
وسُئل بعضهم عن المحبة فقال : "هي
دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب" وهو معنى ما تقدَّم.
من علامات محبة المحب لربه جلَّ وعلا :
أن يؤثر رضاه وطاعته على طاعة نفسه، وأن يقطع نفسه وهواه وأهله وولده والناس
أجمعين في طلب محبة ربه رضاه، وهذا معنى ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(والذي نفسي بيده لا يجد أحدكم حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه
ممن سواهما).
وفي أخرى : (حتى يكون الله ورسوله أحب
إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين).
وهذه درجة الإيثار، ولا يكون هذا إلا إذا دخل
الحب سويداء القلب وهي حبة القلب، وحينئذ يحب الحب كله، ما لم يكن الإيثار فالحب
منه في الفؤاد، وهو تجويف أول خارج القلب.
ومن علامات محبَّة الله جلَّ ذكره عبده : أن يتولَّى
سياسة أموره وحركات جوارحه وأعماله، فيجد أخلاقه على السماحة وجوارحه على الموافقة
يصرح به عن هواه، ويزجره عن ركوب هلكته على التهدد والزجر، فإن شاء إتمام نعمته
عليه بلغه درجة التعويض كما تقدم.
عبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
بقوله : (إذا أحبَّ عبداً جَعلَ لهُ واعِظاً من نَفسِه) فإذا رفعه إلى
درجة التعويض لم يكن لهذا العبد همَّةً إلا في خدمته، ولا رغبة إلا في الأنس به،
يشوقهم إليه والشوق إليه يحدوهم، عزمهم وثيق والفتور منهم بعيد، لا يميلون إلى
غرور ولا يترخصون غلى في تأويل، ولأن صفاتهم الموافقة لزومهم الخوف؛ لعلمهم أن
رضاه في أن يُخاف.
قال الله جل جلاله: {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وهذا كلام على ضرب من التجوز فيما
سبيله التحقيق في العبارة، بل الله جلَّ ذكره لما كان المتولي لسياستهم، وكان الخوف
من سيماء العبودية الزمه قلوبهم أو حضرة أحوالهم، وهو يتولى الصالحين.
وأيضا فإنه من أحب محبوباً خاف فوته، فبان فرق
ما بين الخوفين هذا خوف المعاقبة، وهذا خوف الفوت، وهذا راجع إلى الأول.
وللمحبة ثلاثة منازل :
الأولى : محبة العالم تتولد من معرفة إحسان الله
جل جلاله، وإحاطة علمه وقهر قدرته، وهو حب الصادقين المتحققين.
الثانية : منبعثها معرفة العبد تقدم حب الله
جلَّ جلاله له بلا علة، وكذلك أحبه هو بلا علة، فهذه المحبة لله وبالله ومحبة
الصديقين العارفين، ثم ظاهر اتباع المحبوب وباطنها أن يكون فتنته بالحبيب، فلا يبقى
عليه علَّة له ولا في نفسه، فحقيقة حال هذا ميل دائم وقلب هائم بوجود محبة من
المحبوب، وإيثار له على ما سواه وعلى القول بالتحقيق، فما عاش أحدًا إلا مع مزج
الحب، فإذا توحد الحب بالقلب وتمكَّن فيه قتل.
الحاصل من هذا الخطاب : محبَّة الله جلَّ جلاله
يستوجبها العبد بالعمل بالطاعة وابتغاء مرضاة الله عز وجل، والاقتداء به في معالي
الأخلاق، ثم برسوله في سنته، وبذلك استوجب وعد الله سبحانه بإدخاله محبته وإلحاقه
بالذين أسكن ودَّه في قلوبهم وشغلهم به وفرغهم إليه، فكان هو هم من حيث هم لا من
حيث هو؛ لذلك قيل لهم : أولياء الله وربانيون.