الباب السادس عشر في الحياة
الحياة وجود الشيء لنفسه حياته التامة،
ووجود الشيء لغيره حياة إضافية له، فالحق سبحانه وتعالى موجود لنفسه ، فهو الحي،
وحياته هي الحياة التامة، فلا يلحق بها ممات، والخلق من حيث الجملة موجودون لله،
فليست حياتهم إلاَّ حياة إضافية.
ولهذا التحق بها الفناء والموت، ثم إن حياة
الله في الخلق واحدة تامة لكنهم متفاوتون فيها فمنهم من ظهرت الحياة فيه على
صورتها التامة وهو الإنسان الكامل، فإنه موجود لنفسه وجودا حقيقيا لا مجازيا ولا
إضافيا قربه، فهو الحي التام الحياة بخلاف غيره.
و الملائكة العلويون وهم المهيمنة ومن يلحق
بهم ، وهم من العناصر كالقلم الأعلى واللوح وغيرهما من هذا النوع، فإنهم ملحقون
بالإنسان الكامل فافهم.
ومن الموجودات من ظهرت الحياة فيه على
صورتها لكن غير تامة وهو الإنسان الحيوان والملك والجانّ، فإن كلاًّ من هؤلاء
موجود لنفسه بعلم أنه موجود وأنه كذا وكذا.
ولكن هذا الوجود له غير حقيقي لقيامه بغير
قربه موجود للحق لا له، فكانت حياة قربه حياة غير تامة.
ومنهم من ظهرت له الحياة فيه لا على
صورتها، وهو باقي الحيوانات.
ومنهم من بطنت فيه الحياة، فكان موجوداً
لغيره لا لنفسه كالنبات والمعدن والمعاني وأمثال ذلك، فسرت الحياة في جميع
الأشياء، فما ثم شيء من الموجودات إلاَّ وهو حي، لكن وجود حياته، وما الفرق إلاَّ
أن يكون تاماً أو غير تام. بل ما ثمَّ إلاَّ حياته تامة، لأنه على القدر الذي تستحقه مرتبته، فلو
نقص أو زاد لعدمت تلك المرتبة، فما في الوجود إلاَّ من هو حيّ حياة تامة، ولأن
الحياة عين واحدة، فلا سبيل إلى نقص فيها ولا إلى انقسام لاستحالة تجزئ الجوهر
الفرد.
فالحياة جوهر فرد موجود بكماله لنفسه في كل
شيء، فنسبية الشيء هي حياته، وهي حياة الله التي قامت الأشياء بها، وذلك هو
تسبيحها له من حيث اسمه الحي.
لأن كل شيء في الوجود يسبّح الحق من حيث
الاسم، فتسبيح الموجودات لله من حيث اسمه الحقّ هو عين وجودها بحياته، وتسبيحها له
من حيث اسمه العليم هو دخولها تحت علمه.
وقولها له: يا عالم، هي كونها أعطته العلم
من نفسها بأن حكم عليها أنها كذا وكذا.
وتسبيحها له من حيث اسمه القدير هو دخولها
تحت قدرته.
وتسبيحها له من حيث اسمه المريد هو تخصيصها
بإرادته على ما هي عليه.
وتسبيحها من حيث اسمه السميع هو إسماعها
إياه كلامها وهو ما استحقته حقائقها بطريق
الحال لكنه فيما بينها وبين الله بطريق
المقال.
وتسبيحها له من حيث اسمه البصير هي تعيينها
تحت بصره وبما تستحقه حقائقها.
وتسبيحها له من حيث اسمه المتكلم هي كونها
موجودة عن كلمته. وقس على ذلك باقي الأسماء.
إذا علمت ذلك فاعلم أن حياتها محدثة
بالنسبة إليها، قديمة بالنسبة إلى الله، لأنها حياته، وحياته صفته وصفته ملحقة به،
ومتى أردت أن تتعقل ذلك فانظر الى حياتك وقيدها بك فإنك لا تجد إلا روحأ مختص بك
وذلك هو الروح المحدث ،ومتى رفعت النظر عن حياتك من حيث اختصاصها بك ، وذقت من حيث
الشهود أن كل حي في حياته كما أنت فيها، وشهدت سريان تلك الحياة في جميع الموجودات
، علمت أنها الحياة الحق التي قام بها العالم، وتلك هي الحياة القديمة الإلهية
فافهم ما أشرت إليك في هذه العبارات، بل في جميع كتابي هذا إذ أكثر مسائل هذا
الكتاب مما لم أُسبق إليه ما خلا المصطلح عليها فإنه لا سبيل إلى التحدث في علم
إلاَّ باصطلاح أهله وإلاَّ فأكثر ما وضعته في كتابي هذا لم يضعه أحد قبلي في كتاب
فيما أعلم، ولا سمعته من أحد في خطاب فيما أفهم، بل أعطاني العلم بذلك بشهوده
بالعين التي لا يحجب عنها شيء في الأرض ولا في السماء "وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مُّبِينٍ"[61 : سورة يونس] .
واعلم أن كل شيء من المعاني والهيآت
والأشكال والصور والأقوال والأعمال والمعدن والنبات وغير ذلك مما يطلق عليه اسم
الوجود، فإنه له حياة في نفسه لنفسه حياة تامة كحياة الإنسان لكن لما حجب ذلك عن
الأكثرين ، أنزلناه عن درجت الإنسان وجعلناه موجوداً لغيره، وإلاَّ فكل شيء من
الأشياء له وجود في نفسه لنفسه وحياته تامة بها ينطق وبها يعقل وبها يسمع ويبصر
ويقدر ويريد ويفعل ما يشاء.
ولا يعرف هذا إلاَّ بطريق الكشف فإنا
شهدناه عياناً وأيّدته الأخبار الإلهية فيما نقل إلينا من أن الأعمال تأتي يوم
القيامة صوراً تخاطب صاحبها فتقول له: أنا عملك، ثم تأتيه غيرها فتطردها وتناجيه
.
وكذلك قوله إن الكلمة الحسنة تأتيه في صورة
كذا وكذا، والقبيحة تأتيه في صورة كذا وكذا.
وقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}[44
سورة الإسراء].
فالأشياء جميعها تسبّح الله تعالى بلسان
المقال، يسمعه من كشف الله عنه، وبلسان الحال كما سبق بيانه في هذا الباب، وتسبيحه
بلسان المقال بحمد الله حقيقي غير مجازي فافهم.