الباب الثامن عشر في الإرادة
إن الإرادة أول العطفات كانت له ولنا من النفحات
ظهر الجمال بها من الكنز الذي قد كان في التعريف والنكرات
فبدت محاسنه على أعطافه وهو الخليفة صورة الخلوات
لولاه أي لولا محاسنه اقتضت من نفسها إيجاد مخلوقات
ما كان مخلوقاً ولولا كونهم ما كان منعوتاً بحسن صفات
ظهروا به وبهم ظهور كمال جماله كل لكلٍّ مظهر الحسنات
والمؤمن الفرد الوحيد لمؤمن فيما روى المختار كالمرآة
هو مؤمن والفرد منّا مؤمن كمرآتين تقابلا بالذات
فبدت محاسنه بنا وبدت محا سننا به من غير ما إثبات
وبنا يسمى بل تسمينا به كل لكلّ نسخة الآيات
لولا إرادته التعرّف لم يكن للكنز إبراز من الخفيّات
فلذلك المعنى تقدم حسنها عن سائر الأوصاف والنسبات
اعلم أن الإرادة صفة تجلي علم الحق على حسب المقتضى الذاتي، فذلك المقتضى هو الإرادة وهي تخصيص الحق تعالى لمعلوماته بالوجود على حسب ما اقتضاه العلم. فهذا الوصف فيه يسمى الإرادة، والإرادة المخلوقة فينا هي عين إرادة الحق سبحانه وتعالى، لكن لما نسبت إلينا كان الحدوث اللازم لنا لازم لوصفنا بفقلنا أن الإرادة مخلوقة يعني إرادتنا.
وإلا فهي بنسبتها إلى الله تعالى وهي عين الإرادة القديمة التي هي له، وما منعنا من إيراد الأشياء على حسب مطلوبها إلاَّ لنسبتها إلينا، وهذه النسبة هي المخلوقة، فإذا ارتفعت النسبة التي لها إلينا ونسبت إلى الحق على ما هي عليه له انفعلت بها الأشياء فافهم.
كما أن وجودنا بنسبته إلينا مخلوق وبنسبته إلى الله قديم، وهذه النسبة في الصورية الذي يعطيها الكشف والذوق أو العلم القائم مقام العين فما ثم إلا هذا، فافهم.
واعلم أن الإرادة لها تسعة مظاهر في المخلوقات:
المظهر الأول: هو الميل، وهو انجذاب القلب إلى مطلوبه، فإذا قوي ودام سمي ولعاً، وهو المظهر الثاني للإرادة، ثم إذا اشتدّ وزاد سمي صبابة، وهو إذا أخذ القلب في الاسترسال فيمن يحبّ فكأنه انصبّ كالماء إذا فرغ لا يجد بُدًّا من الانصباب، وهذا هو المظهر الثالث للإرادة، ثم إذا تفرَّغ له بالكلية وتمكن ذلك منه سمي شغفاً، وهو المظهر الرابع للإرادة، ثم إذا استحكم في الفؤاد وأخذه عن الأشياء سمي هوى،وهو المظهر الخامس، ثم إذا استوفى حكمه على الجسد سمي غراما، وهو المظهر السادس للإرادة. ثم إذا نمى وزالت العلل الموجبة للميل سمي حبًا، وهو المظهر السابع. ثم إذا هاج حتى يفنى المحب عن نفسه سمي ودًّا، وهو المظهر الثامن للإرادة. ثم إذا إذا أفنى المحب والمحبوب سمي عشقًا وفي هذا المقام يرى للعاشق محبوبه فلا يعرفه ولا يصح إليه كما روى عن مجنون ليلى أنها مرت ذات يومفدعته إليها لتحدِّثه فقال لها دعيني فإني مشغول عنك وهذا آخر مقامات الوصول والقرب فيها يُنكر العارف معروفه فلا يبقى عارف عارف ولا معروف ولا عاشق ولا معشوق ولا يبقى إلا العشق وحده والعشق هو الذات الصرف المحض الذي لا يدخل تحت رسم ولا اسم ولا نعت ولا وصف، فإذا امتحق العاشق وسحق أخذ العشق في فناء العاشق والمعشوق، فلا يزال يفنى منه الاسم ثم الوصف ثم الذات فلا يبقى عاشق ولا معشوق، فحينئذ يظهر العشق بالصورتين ويتصف بالوصفين، فيسمى بالعاشق ويسمى بالمعشوق، وفي ذلك أقول:
العشق نار اللَّه أعني الموقدة فأفولها فطلوعها في الأفئدة
نبأ عظيم أهله هم فيه مختلفون أعني في المكانة والحدة
وهو أهم في نقطة العشق التي هي واحد متفرقون على حدة
اعلم أن هذا الفن عبارة عن عدم الشعور باستغراق حكم الذهول عليه، ففناءه عن نفسه عدم شعوره به، وفناءه عن محبوبه باستهلاكه فيه. فالفناء في اصطلاح القوم هو عبارة عن عدم شعور الشخص بنفسه ولا بشيء من لوازمها.
فإذا علمت هذا فاعلم أن الإرادة الإلهية المخصصة للمخلوقات على كل حال وجيه صادرة من غير علّة ولا سبب بل محض اختيار إلهي ، لأنها أعني الإرادة حكم من أحكام العظمة، ووصف من أوصاف الألوهية، فالألوهية وعظمته لنفسها لا لعلّة.
وهذا بخلاف رأي الإمام محيى الدين بن العربي رضي الله عنه فإنه يقول: لا يجوز أن يسمى الله مختاراً فأنه لا يفعل شيئاً بالاختيار، بل يفعله على حسب ما اقتضاه العالم من نفسه، وما اقتضى العالم من نفسه إلاَّ هذا الوجه الذي هو عليه، فلا يكون مختاراً.
هذا كلام الإمام محيى الدين في الفتوحات المكية، ولقد تكلم على سرّ ظفر به من تجلّي الإرادة وفاته منه أكثر مما ظفر به، وذلك من مقتضيات العظمة الإلهية .
ولقد ظفرنا بما ظفر به، ثم عثرنا بعد ذلك في تجلي العزة على أنه مختار في الأشياء، متصرف فيها، بحكم اختيار المشيئة الصادرة لا عن ضرورة ولا مريد بل شأن إلهي ووصف ذاتي كما صرح الله تعالى عن نفسه في كتابه فقال: "وربك يخلق ما يشاء ويختار" [68: سورة القصص] . فهو القادر المختار العزيز الجبار المتكبر القهار.