بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي تفضل بكمال إنعامه فجعل ذكره مفتاحا لأقفال اللبوب، وامتن بتمام إحسانه فقال : {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ،وزاد في الامتنان فصير ذكره لنا شيجةً لذكرنا أياه ، فقال :{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} فمالنا نذكر ما عداه، وأفاض بيان شرفه على غيره وأظهر، فقال تعالى : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}، وأشهد أن لا إله الا الله الاله الاكبر، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الحبيب الأفخر، والصلاة و السلام على القائل : (أفضل الذكر لا إله الا الله) ، وعلى آله وصحبه أحباب الله.
وبعد : فلما كان ذكر الله تعالى غذاء الأرواح، وحياةً للأشباح، وجلاء لقلوب المؤمنين ، وشفاء لجنان المُحبِّين، وطمأنينة لأسرار العارفين، ومفتاحٌ للفلاح، وصفاء للأرواح، وتحصيلاً للعناية، ومنشوراً للولاية دعاني ذلك لأن أجمع في بيان ما يتعلق به وما يحتاج إليه الذاكر نبذةً لأنتفع بها أنا ومن أراد الله نفعه رجاء الثواب من الله بالله، وللدعاء من الذاكرين الله بالله، وسميتها : (جواذب القلوب لذكر علام الغيوب ، وفواتح الأسرار ، بأذكار الليل و النهار) والله أسأل أن ينفع بها عباده ، ويديم بها الافادة ، فإنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
فأقول مستعيناً بالله ومستمدًّا من فيضِ فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبوباً لذلك في ثمانية أبواب :
الباب الأول : في فضل الذكر و الحثِّ عليه و التحذير من تركه.
الباب الثاني : في فضل أهله و مجلسه و الاجتماع عليه.
الباب الثالث : في فضل لا إله الا الله وأسمائها و أهلها.
الباب الرابع : في آدابه ومحرماته ومكروهاته.
الباب الخامس : في فوائده وثمراته.
الباب السادس : في فوائد متعلقاته.
الباب السابع : في عمل اليوم والليلة.
الباب الثامن : في الدعاء وما ينوط به.
وقد حذفت الأسانيد والرواة غالباً بل ولم "أرد" (1) الأكثر إكتفاء بذكر عمدة ما نقلتُ منه وذلك لأذكار وشرحتها و الجامع الصغير و أذكار إبن أرسلان وتذكرة القرطبي وبعض كتب الفقه وشرح الحكيم وغير ذلك ممَّا هو مذكور فيه أحيانا، فمن أشكل عليه من ذلك فليرجع لما هنالك، وأنا بحمد الله مَعبر وسفير والله بما أقول خبير، ومقالي غير خافي على اللبيب البصير.
مقدمة
حقيقة الذكر في اللغة بالكسر الحفظ للشيء كالتذكار، والثناؤ في الاصطلاح هو التخلص من الغفلة بدوام حضور القلب مع الحق، والثناء عليه تعالى باللسان و الجنان أو الأركان بأي عبادة كانت، فكل طائع لله تعالى فهو ذاكر ذاكر كالمشتغل بالتفسير و الحديث و الفقه والكلام والوعظ والتفكر في عظمة الله وجلاله وملكه وملكوته، وكل ممتثل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو ذاكر، قال صلى الله عليه وسلم : (مَنْ أَطَاعَ اللهَ فَقَدْ ذَكَرَ الله) وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله لم يذكره وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، وقال الامام حجة الاسلام الغزالي رحمه الله تعالى : (للذكر حقيقةً وهو استيلاء المذكور على القلب وانمحاء الذاكر وخفاؤه) وللعارفين في ذلك اختلاف بحسب ما فتح لهم، وهو في الحقيقة في ثمراته لافي حقيقته، إذ هي إما ذكرت بلا نزاع والذكر يكون باللسان وبالقلب وبالروح وبالسر وبالجملة وأدناه الأول فالثاني وهلم جرًّا، فأما ذكر اللسان فهو ذكر الحروف بلا حضور القلب وله فضل عظيم شهدت به الآيات و الأخبار و الآثار، وأما ذكر القلب فهو حضور القلب مع الله تعالى ومع الخلق على السواء، سواءً قارنهُ غيره من الأذكار أم لا، وأما ذكر الروح فهو أن يكون الحضور مع الحق سبحانه غالبًا على الحضور مع الخلق، و أما ذكر السر فهو أن لا يكون له حضور مع غير الحق و لا يكون له خبر عن الكون جملة كذا قال السادة النقشبندية، وقال غيرهم : ذكر السر ذكر الغيبة عن الحضور في المذكور وهو الذكر الخفي، وأما ذكر الجملة فهو أن يذكره تعالى بجميع ظاهره وباطنه.
واعلم أن الذكر رزق الأرواح لأن الرزق قسمان : ظاهر وباطن، فرزق الظاهر بحركات الأجسام، ورزق الباطن بحركات القلوب، ورزق الأسرار بالسكون، ورزق القبول بالفنا عن السكون حتى يكون العبد ساكنًا لله مع الله، وليس في الأغذية قوت للأرواح وانما هي غذاء للأشباح وقوت الأرواح و القلوب ذكرك علام الغيوب، قال الله العظيم : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فإذا ذكرت الله تعالى ذكر معك كل من يسمعك لأنك تذكر بلسانك ثم بقلبك ثم بنفسك ثم بروحك ثم بعقلك ثم بسرك ذلك في الذكر الواحد، فإذا ذكرت الله سبحانه وتعالى بلسانك ذكر مع ذكر لسانك الجمادات كلها، وإذا ذكرت الله بقلبك ذكر مع ذكر قلبك الكون ومن فيه من عوالم الله، وإذا ذكرت الله بنفسك ذكر معك السموات و من فيها، واذا ذكرت الله بروحك ذكر معك الكرسي ومن فيه من عوالمه، وإذا ذكرت الله بعقلك ذكر معك حملة العرش و من طاف به من الملائكة الكرُّوبين و الأرواح المقربين، وإذا ذكرت الله بسرك ذكر معك العرش بجميع عوالمه إلي أن يتصل الذكر بالذات كذا في مفتاح الفلاح لسيدي إبن عطاء الله رحمه الله تعالى.
1 -غير واضحة في المخطوطة