نعم للبيعة صورة أخرى وكيفية ثانية، وهي التي عليها العمل، الآن في جزائر العرب وكيفيتها، بأن يجعل طالب البيعة يده مبسوطة تحت يد الشيخ إذا وجده، وإن شاركه أحد جعل يده تحت يد طالب البيعة، وإن تعدّدوا يد الشيخ مبسوطة فوق يده مع الجمع، ثم يقول : "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا". يتلوا الآية تيمُّناً وتفاؤلاً بتحقيق المتابعة في الطريق كالشريعة إلى أن يبدي الله لهم أعلام الحقيقة، ويقول عقب الآية للمبايع والمبايعين إن كانوا جماعة : "قل (أو قولوا) بصيغة الجمع للجماعة والمفرد للفرد : رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيًّا، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبسيّد الشيخ شيخاً ومربيًّا ودليلاً، وبالفقراء التابعين إخواناً، لي مالَهُم، وعليَّ ما عليهم، الطاعة تجمعنا، والمعصية تفرقنا، وهم (أو هو) يتابعه في اللفظ، كما يقول كلمة كلمة إلى منتهى ذلك، فيقولون كذلك إقراراً بالطاعة في كل ذلك، ووفاءً بالبيعة عليه بقدر الاستطاعة؛ لأن العقد بالمبايعة له كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فقوله تعالى : {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} جامع سُبُل الحق كلها، وهو المراد بقولهم : "الطاعة تجمعنا والمعصية" تفرقنا.
ثم يقول الشيخ : قولوا وكل منا يقول : (أسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، الحَيُّ القَيُّومُ، وَأتُوبُ إلَيهِ) ثلاث مرات مادًّا به صوته بقصد التلقين للذكر مع البيعة، وإعلانا للتوحيد، وإشهاداً عليه، فإذا كملت الثلاثة منه قالوها ثلاثاً تبعاً له، ثم زادوا منها بطريق الحدْرِ والاسترسال نفساً حيِّداً مع تغميض العين، وإحضار القلب لجلال الوحدانية، ومراعاة المنّة بهذه التفضلات الربانية الموصلة لصحَّة النسب بأولياء الله على سنن التخصص في الكرامة؛ لأن هذا الفقير الصحيح النسب إليهم، إذا أخد عنه من لم يجد مرشداً صحَّ به نسبة للطريق وأهلها، فإن لازم الطاعة وتجنَّب المعصية نجبَ بإذن الله تعالى وله أثر كبير.
ثم يختم الشيخ كما يرى ويقول : "اللهم خد منه وتقبَّل منه، وافتح عليه أبواب كل خير فتحتها على أنبيائك وأوليائك وعبادك الصالحين" وإن كانوا جماعة جمع في الدعاء، ثم يقوم الفقير ويسلم على من حضر من إخوانه، وهم يباركون له في الدخول، ويدعون له بتمام الوصول الحاصل عند هذه الطاعة.
ثم يأمره الشيخ بعد ذلك بما يرى فيه صلاح دينه ودنياه بقدر حاله، متجرداً كان او متسبِّبًا أو بينهما من الخدمة والنصيحة والمعاملة بما يليق، وعليه قبول الأمر من غير تفتيش عليه ولا تحكم ولا تفهم، بل طاعة محضة للآمر، وإن شقَّ عليه الأمر لأمرٍ عرضه على الشيخ فينظر فيه بما يبقيه على ما أمره أولاً ويوسع له بحسب نظره، ويجعل له ورداً من التهليل على قدر حاله صباحاً ومساءً، لا يخل بما أوصاه به ولا يقطع ما أمره به كيف كان مقدَّرًا بمدة أو دائما.
وعلى الجملة إنه لا يتجاوز ما أمره به، ثم إن كان حاضراً عنده أ و قريباً منه شافهه فيما يعرض له، وإلا راسله في ذلك، وما يحدده له يقف عنده ليعود نفع ذلك عليه؛ لأن من تعدى الحدّ فقد ظلم نفسه، ومن وقف عنده رُحمَ ودنى واقترب، فلا يزال حتى تزال الحجب عنه بقدر حاله، وتحبه كما أحب.
فعند ذلك يظهر له ستر المبايعة والتلقين، كما قال سيد العارفين، مربي المريدين وحامل راية الموحدين، سيدي وأستاذي مولانا السيد مصطفى البكري نفع الله به وبإشاراته في مصنفاته حيث قال في الغيتة الغراء :
وإنَّ في التلقين والمبايعة سرا تُسرُّ فيه نفس طائعه
متى يحرِّك المريد السلسلة تأتي إليه من رجالها الصِّلَة
ومَن بدونه وصلةٍ يحرِّكُ ما نال شيئاً وعليه الدّرك
وفيهما سرُّ ارتباط القلب بآخر والصدق عنه ينأى
وبالتِّحاد كل واحد هنا للثاني يدعو بحقٍّ يا أنَا
ليس لنا به من الوسائط لوىهم كنا من البسائط
طرق الهدى لا تسلكنَّ فيها بلا دليل قد درى خافيها
فربما تقع في المهالك إن لم تسِر بسيرؤ سارٍ سالك
وإن تسِرْ من غير ما دليل وقعت في التشبيه والتعطيل
لم تتخد نهج الهدى مقيلا فإنه قد أمّ جبرائلا
كذا الكليم أمّ ياذا الخضراء وهو أهم منزلا وقدرا