تمهيد
إن
أعظم ذات تجلى الحق عليها بجميل الصفات وتعدد المظاهر المرضية، هي ذات نبينا
الأكرم محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه، وما ذلك إلا لمرتبته الخاصة
ومنزلته المتفردة التي جعلته يعلو عن كل مقارنة، ويفضل على كل مخلوق، وسر ذلك يرجع
إلى أن بعثته صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة من الله إلى العالمين.
ولتحقيق هذه
الرحمة لا بدَّ أن تكون شخصية المبعوث المرسَل كاملة، تشمل كل أمور الدنيا والدين،
وذلك ما نفهمه من قوله تعالى في حقه صلى الله عليه وسلم : {وَكَانَ فَضْلُاللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.
ولقد بيَّن
القرآن الكريم وجوه المناصب والتصرفات والأفعال التي تقلَّب فيها رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال تعالى : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُّبِينٍ}.
وقال تعالى
: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}.
وقد قال
تعالى : {لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا
هُوَعَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.
وقال تعالى
: {خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ : أَنَا
مُحَمَّدٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي
الْكُفْرَ ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي ، وَأَنَا
الْعَاقِبُ ).
يقول
القرافي رحمه الله : (اعلم
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم،
فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة، وعالم العلماء، فجميع المناصب
الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته، وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في
ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة).
ولقد وضع
ابن قيم الجوزية رحمه الله عنوانا في إعلامه هو : "أول الموقعين عن رب
العالمين"، ثم قال : "وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين
وإمام المتقين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين
عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين".
ولقد توسَّع
الدارسون المحدثون في هذا الشأن، فأحصوا تصرفاته صلى الله عليه وسلم، وقسموها إلى
أقسام عدة، منها : ما هو صريح كالفعل الجِبِلِّي والفعل العادي والفعل في الأمور
الدنيوية والفعل الخارق للعادات والفعل البياني والفعل الامتثالي والفعل المتعدي،
وما فعله صلى الله عليه وسلم لانتظار الوحي، والفعل المجرَّد المجهول الصِّفة،
ومنها ما هو غير صريح : كالكتابة والإشارة والترك والسكوت والتقرير، كما ألحقوا
بهما أفعالاً أخرى كأفعاله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة والشمائل النفسية، وفعله
في الرؤيا المنامية.
ويعد الطاهر
بن عاشور رحمه الله من المتفردين بالإشارة إلى مجموعة أخرى من التصرفات النبوية
وإن كان القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة قد شهدا على ذلك واقرأ بها، يقول :
"وقد عرض لي الآن أن نعد من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي يصدر عنها
قول منه أو فعل اثني عشر حالاً، منها ما وقع في كلام القرافي ومنها ما لم يذكره،
وهي التشريع والفتوى والقضاء والإمارة والهدي والصلح، والإشارة على المشير،
والنصيحة وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية والتأديب، والتجرد عن الإرشاد.