تكامل العلم و العبادة في منهج الطريقة:
من خلال استقرائنا لكثير من الأقوال الصادرة عن البعض ممن لم يلازموا الحضور في مجلس الطريقة و زواياها أو يتابعوا بدقة و موضوعية - إضافة إلى غموض نية - جملة أنشطتها و نوعيتها، و جدنا أنه ربما قد تحصر توهما منهجها في أنه مجرد مجالس تعبدية و سردية للأذكار والأدعية بالتقليد وإنشاد القصائد و الأشعار على وجه العفوية و التركيم.
و هذا ما حدا بالبعض إلى عدم التحمس أو الاعتراض على ملازمة مجالس الطريقة بصورة منتظمة، من دعوى أن مجالس العلم أكثر إفادة وضرورة من مجالس الذكر، حتى إن البعض قد يلجأ أحيانا إلى تأويل أحاديث الذكر تعسفا إلى معنى الفكر أو تدارس العلم و الوعظ القائم على التلقين المحض، مع إسقاط الممارسة العملية التعبدية للذكر القائمة على التكرار و التزام الأوراد و الدعوات من الحسبان و كأن الدين في زعم أصحاب هذا الفهم الاسقاطي للذكر و مقتضياته السلوكية و التربوية عبارة عن نشرة إخبارية وصفية، لا باعث عملي لمستمعها ما تضمنته من أحداث و وقائع، و لا علاقة لها بها سوى من باب استقبال البث الإذاعي لا غير .
وهكذا قد تمضي الأيام لدى أصحاب هذا الاتجاه في تأويل أحكام الدين بين التذكر و النسيان، و يبقى الإيمان و تجدده عبارة عن خبر مرهون بحضور الواعظ بصوته أو غيابه، أو باستعداد الذهن لتذكره أو كلله، و"ليس الإيمان بالتمني و لكن الإيمان بما وقر في القلب و صدقه العمل" كما قال النبي صلى الله عليه و سلم.
و لربما قد دخلت الشبهة لدى البعض ممن يستنقصون توهما فضل مجالس الذكر بزعم التفرغ للأولي منهما في نظرهم و المتمثلة في مجالس العلم أو الوعظ و ذلك من خلال فهمهم القاصر و تأويلهم الناقص لمفهوم الحصر الوارد في الحديث المروي في سنن الدارمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال " إن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بمجلسين في مسجده، أحد المجلسين يدعون الله و يرغبون إليه، و الآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كلا المجلسين على خير، و أحدهما أفضل من الآخر، أما هؤلاء فيتعلمون و يعلمون الجاهل، و إنما بعثت معلما، ثم أقبل فجلس معهم ".
و كذلك فيما رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه و سلم قوله " فضل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم، إن الله عز و جل و ملائكته، و أهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، و حتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير " و أيضا فيما رواه أحمد بن حنبل و غيره من حديث يقول فيه النبي صلى الله عليه و سلم " إن فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، و إن العلماء ورثة الأنبياء و إن الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما، و إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " الحديث .
و هذه الأحاديث بصحيحها و ما يحتاج إلى تصحيح ينبغي أن تفسر على قواعد سليمة توافق روح الدين الإسلامي في غايته، و هي قول الله تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" ، " وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى "و " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ"
إذ الحديث الأول إن صح رغم أنه ظني الثبوت، فإن دلالته تقتضي التكامل بين المجلسين في مدرسة واحدة، و هما: مجلس الذكر و العبادة والدعاء ومجلس العلم و التفقه و الوعظ و الإرشاد. أما المجلس الأول ففي الحديث إقرار لأهله بالخير و المشروعية و فيه دليل على أن المرتدين له لهم خصوصية إيمانية و حضور روحي متميز بالإضافة إلى علمهم بالله تعالى وهو أشرف العلم بأشرف معلوم، و العلم يشرف بشرف معلومه. كما أن لديهم علم بالأمر الشرعي نصا قطعي الثبوت و الدلالة يؤخذ من قول الله تعالى : " إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ "، " وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " و " قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا " و" دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ".
و في الحديث عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم و لا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، و إما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " قالوا : إذن نكثر، قال " الله أكثر " رواه أحمد، وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل" قيل " يا رسول الله: و ما الاستعجال ؟ قال "يقول قد دعوت و قد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك و يدع الدعاء"
فالأفضلية لأحد المجلسين على الآخر أو للعالم على العابد لا ينبغي أن تؤخذ على سبيل إقصاء المفضل عليه أو تشطير الأحكام الدينية إلى إيجابية وسلبية، لأن مثل هذا الفهم يكون بمثابة الإيمان ببعض الكتاب و الكفر بالبعض الآخر تقريبا، إذ لو كان العلم ملغيا للعبادة و مقلصا من مظاهرها و الإكثار منها لنص الشرع على ذلك، و إنما تبقى الموازنة قائمة بين العلم و العبادة حتى يتحقق المطلوب، كما أن المجلس الذي ضم الذاكرين في دعواتهم و تضرعهم هو مجلس الصحابة، و هم أدرى بخطاب النبي صلى الله عليه و سلم و مقتضاه منا، و لهذا فلو فهموا من انصرافه عن مجلسهم نحو مجلس التعليم استنقاصا لفضلهم أو تفريطا منهم في الاقتداء به لهبوا جميعا نحوه دون توان حتى لا يفوتهم الفضل، لأنهم أحرص من غيرهم على نيله، كما أن النبي صلى الله عليه و سلم حريص على المؤمنين لينيلهم الحظ الأوفر منه، و رغم ذلك لم يأمرهم بالانصراف من مجلسهم إلى المجلس الآخر حيث انتهى، لأن هذا المجلس الأخير من مقتضاه المجلس الأول إذ العلم يستلزم صاحبه العمل و خير الفقه فقه العبادات ثم المعاملات. و " مَنْ عَمِلَ بِما عَلِمَ أَوْرَثَهُ الله عِلْمُ ما لَمْ يَعْلَمْ " كما في الحديث و أيضا " من ازداد علما و لم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا"
و يجمع هذا قول الله تعالى: "وَاتَّقُواْ الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله" و كذلك قوله تعالى:" أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ".
و لهذا فلا بد من العلم للعبادة كما أن العبادة هي الغاية من العلم، كنتيجة حتمية عبر عنها القرآن بصيغة قطعية الدلالة و الثبوت " و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" الآية و " الدعاء مخ العبادة " كما في الحديث .
و هذا التكامل و التلازم هو ما جمعته الطريقة القادرية البودشيشية في منهجها بشقيه العلمي و العملي على شكل تداخل و موازنة رفيعة، و كذا تواصل ذوقي بحسب المناسبة و اقتضاء الحال .
و إذا كان البعض يسلم بتقدم الطريقة في مجال العبادة و خاصة الذكر والأدعية و تلاوة القرآن . . الخ فإنهم قد لا يعيرون للجانب العلمي منها قيمة أو اهتماما ملحوظا.
و هذا الغلط قد يقع حتى من بعض من يرتدون مجالس الطريقة على سبيل الانتظام و الانتماء. نظرا لأنهم لم يحصل لهم ذوق و وعي عميق بعد بالطريقة في إدراك المناسبة بين الجانب العلمي و العملي فيها. و من هنا فقد يحصل تفاوت في إدراك روح منهج الطريقة و أبعاده لدى الشيخ بين بعض المنتمين إليها بله غيرهم ممن لا حظ لهم من ذوقها أو تحقيقها!
نوعية التكوين العلمي بين مدار السنة والفصول:
فالمنهج العلمي في الطريقة خصوصا له عدة صور تحصيلية قد يمتزج فيها التلقين بالدروس مع التلقين بالأوراد امتزاجا عجيبا و إيجابيا لحد الذوبان بين المنهج العلمي و العملي تكون نتيجته: المريد العالم الصالح، بالحال و المقال.فالتلقين بالدروس قد يتم على مستوى الزاوية المركزية و الزوايا والتجمعات الفرعية. إذ في الزاوية المركزية يتسم التكوين العلمي بمستويات مختلفة من حيث القلة و الكثافة.
ففي سائر الأيام و حيث أن نسبة المريدين المقيمين بها على طول السنة تكون محدودة، يرتكز التلقين هناك على تعليم الفقه الإسلامي و خاصة العبادات من خلال شرح منظومة " المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" لعبد الواحد بن عاشر، و ذلك بواسطة فقيه متمكن من شروحها واستظهارها، يقوم بهذا العمل بصفة رسمية و يتولى الشيخ نفقة مساهمته وإقامته في الزاوية .
أما بالنسبة إلى العطلة الأسبوعية فإن الدروس تكون بحسب إحياء ليلة في كل أسبوع بالزاوية أو ضواحيها، تنصب في أغلب الأحيان على إبراز فضل الطريقة و أهمية التصوف و استعراض بعض المعاني الذوقية بحسب حال الملقي و مستوى الحضور المتلقي.
لكن كثافة التكوين العلمي و تنوعه يظهر في الزاوية المركزية عند العطل الفصلية و العطلة الصيفية بصورة خاصة .
إذ العطل الفصلية تكون نسبة الحضور في الزاوية غالبا من الطلبة على اختلاف مستوياتهم و توجهاتهم العلمية، و حينئذ يقام بالزاوية ما يصطلح عليه بالاعتكاف، الذي يجمع بين التكوين الروحي بالممارسة التعبدية و التكوين العلمي الذي يقسم إلى مستويات بحسب سن الطلبة و ثقافتهم وبحسب طبيعة الموضوع وقابليته للتداول العام و الخاص .
فقد يهتم البعض منهم بحفظ الأحاديث النبوية المتصلة السند والصحيحة بالدرجة الأولى، مركزين بصفة خاصة على التي تحدد مشروعية المنهج الذي تشكله الطريقة في أذكارها و أنشطتها و مجالسها و تلقيناتها . . . الخ. و ذلك حتى يصبح المريد المبتدئ و المتعلم واعيا بطريقته، مطمئنا في انتمائه إليها بعقله و قلبه.
كما قد يهتم البعض الآخر بشرح تلك الأحاديث نفسها و استخراج الأحكام منها في صورة موجزة و ملخصة، فيما يهتم غيرهم بحسب مستواهم الثقافي بتفصيل النظر و توسيع دائرة الشرح و التفسير.
أما الآخرون فيركزون على القضايا المشكلة و المطروحة للجدل والمناقشة كموضوع التصوف جملة وتفصيلا، و مفهوم السنة و البدعة والسلفية والتوسل . . .الخ. و هي مواضيع قد يصبح المريد من خلال البحث و الخوض فيها متمرسا من حيث قدرته على مجادلة المعارضين ومن أولى على إقناع نفسه أمام تشكيكات المشككين و تشويشات المشوشين عليه في مسلكه.
و عند هذه الاعتكافات الفصلية قد تلقى بعض الدروس العامة من طرف بعض الطلبة النابغين و الناشئين في حضن الطريقة، و أيضا من بعض الأساتذة ممن تكونوا و ارتووا من معينها، بحيث تكون دروسهم إما توجيهات تربوية حول آداب الصحبة و أخلاق المريدين و تأدبهم في الزاوية و خارجها و التزام النظام والوقار أثناء الإقامة بها، حتى يستفيدوا من معتكفهم استفادة روحية و أخلاقية قبل أن تكون مجرد علمية نظرية. و إما أن تكون الدروس مختارات علمية وموضوعية يتولى إلقاءها أحد الأساتذة الجامعيين أو غيرهم ممن تطوع للإقامة في الزاوية عند هذه الفترات من السنة .
و عند نهاية الاعتكاف الفصلي قد تقام ليلة الختم يجتمع لإحيائها كثير من الذاكرين الوافدين من شتى أنحاء البلد و من المقيمين بالزاوية، وفيها يتم ختم صحيح البخاري و كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض على طريقة علمية، تلقى من خلالها نبذة عن سيرة الإمام البخاري و المنهج الذي سلكه في جمعه للصحيح، مع قراءة حديث من بدايته و حديث عند نهايته، و هو نفس المنهج الذي يسلك في التعريف بتاريخ القاضي عياض و تآليفه و أهمية كتابه الشفا. . . الخ. بعدها قد يتوالى استعراض لملخص التكوينات التي تمت أثناء الاعتكاف، يتداولها تلامذة وطلبة بحسب مستوياتهم في الحفظ و الاستظهار والفهم و الاعتبار، ثم قد تلقى دروس موجزة بين الفينة والأخرى على طول الليلة حتى الفجر، تتعلق خاصة بمفهوم الدعوة و الداعية في الإسلام، و قضايا الأمة واضطرارها إلى التجديد و المجدد، و علم السلوك و إصلاح القلوب، و شرح طرق علاج الأمراض المستشرية فيها، و السبيل إلى إنقاذها منها بذكر الله تعالى، و صحبة أوليائه الصالحين . . .الخ.
" الجامعة الصيفية الصوفية " و تلقين العلوم:
إن هذا البرنامج العلمي قد يعرف صورة أطول و أكثر كثافة عند العطلة الصيفية، و بالأخص عند شهر غشت الذي يقام فيه اعتكاف مستمر ومتواصل لمدة شهر بأكمله، و هو بمثابة "جامعة صيفية صوفية"، لا يوجد لها نظير يضاهيها في العالم الإسلامي برمته، سواء في مجال العلم و الأقوال أو العبادة و الأحوال .
إذ في الصيف و رغم القيظ و الحر، و توق النفس إلى الاستجمام في المصايف و المسابح و انسياق الكثير نحو فتن الشهوات و تتبع خطوات الشيطان، هذا مع يبس الدماغ و كلله عن تحمل النظر في الكتب و الصحف بصفة شبه عامة، فإننا نجد على عكس من ذلك ثلة من المؤمنين الذاكرين وخاصة الشباب منهم و في مقتبل أعمارهم و حيويتهم يحملون المسبحات بدل ارتياد المسابح، والأقلام و الدفاتر بدل شغل أعينهم بالمحظور و ما لا يليق من المناظر، و ذلك من اجل نهل العلم و التبحر في معرفة دينهم والإطلاع بصفاء على أحكام شريعتهم و على دقائق لغتهم و قواعدها.
و بهذا فقد تكون الزاوية بمثابة جامعة صيفية صوفية، تفتتح نشاطها باجتماعات تمهيدية و تنظيمية يتذاكر فيها المريدون الصادقون بعد استئذان شيخهم حول البرنامج الذي سيسلكونه في هذا الشهر الصيفي، سواء فيما يتعلق بترتيب الأذكار و توقيت الدروس و كذا نظام الإقامة من نوم و أكل وشرب و نظافة . . .الخ.
فتتوزع الأدوار بين المريدين و خاصة الشباب منهم بحسب المدن التي يمثلونها، إذ كل مدينة يشرف على رعاية وفدها مريد له سبق أو علم أو التزام وصدق في الطريقة.
و الذي يهمنا في هذا السياق هو الأدوار العلمية و منهجيتها في هذا الشهر بالضبط، و هي أدوار قد تكون ثابتة و متغيرة بحسب حضور الأشخاص الممثلين لها أو غيابهم، إلا أن الغالب الثابت في منهج التلقين العلمي من حيث الفترة الزمنية هو المياومة في التلقينات مع التزام فترات معينة كل يوم على مدار الشهر .
و هذه الفترات تشتمل خاصة على ما بعد صلاة العصر إلى ما قبيل صلاة المغرب، و ما بعد صلاة العشاء إلى ما قبيل الثلث الأخير من الليل أو ما بعيده .
إذ في فترة ما بعد صلاة العصر قد تتم برمجة درسين معا الواحد تلو الآخر، يحضرهما الشيخ نفسه في غالب الأحيان رغم كبر سنه و اعتلال صحته وآلام ركبتيه - شافاه الله و أبقاه ذخرا و ملاذا لهذه الأمة -.
و الدروس التي تلقى في هذه الفترة و خاصة في الحصة الأولى غالبا ما تكون ذات مستوى جامعي متخصص، تعالج من خلالها مواضيع دقيقة وعالية المستوى قد لا يوجد لها نظير في الجامعات الصيفية العصرية، و هي تجمع ما بين دروس في السيرة النبوية و التصوف و علم التوحيد، و الفقه وأصوله، و علم الحديث، و كذا الاقتصاد الإسلامي . . .الخ.
أما الحصة الثانية فهي لا تقل عن سابقتها قيمة و غاية، و فيها درست أو تدرس علوم القرآن و تجويده، و كذا علوم اللغة و خاصة النحو والإعراب و ما يندرج تحته أو ضمنه من معاني و مفاهيم، و عند هاتين الحصتين يكون الشيخ كما أشرنا حاضرا و ملاحظا و بالتالي مصححا، غالبا ما تنتهي الجلسة بنشاط روحي فياض تدمع عنده العيون و تتواجد الأرواح وينال كل واحد نصيبه من العلم والعرفان بحسب حضوره و استحضاره لمعاني المجلس و أهله و ما يلقى فيه من دقائق العلوم و المعرفة، في حين يكون الطلبة و حتى بعض الأساتذة على أهبة لتسجيل ما يلقى عليهم و ما يدور أمام أعينهم و بمسامعهم من أحاديث ومحاورات، بل و نقاشات حادة في مختلف العلوم و الفنون.
و في فترة ما بعد صلاة العشاء فإن الدروس تكون في غالب الأحيان فقهية تعبدية، و توجيهية تربوية و تنظيمية، قد تشمل تدريس منظومة "المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" لابن عاشر و كذا بعض الحكم العطائية (لابن عطاء الله السكندري) كما قد يرشح الشباب في بعض المرات عند هذه الفترة أحد النبغاء أو النشيطين منهم لتولي إلقاء درس بحسب مستوى تحصيله ودربته في حضرة الشيخ سيدي جمال و باقي المريدين من مختلف الأعمار و المستويات العلمية و الثقافية، و هي دروس تكون بمثابة حافز و تشجيع للطلبة و الشباب على أن تتكون فيهم ملكة الإلقاء و التلقين والشجاعة الأدبية لمواجهة الجمهور بما يكتسبونه من معارف و أذواق دون دهشة أو تلعثم و إرتاج و هو ما يلاحظ على كثير من المريدين سواء كانوا طلبة أو أساتذة عند مخاطبتهم الآلاف من الحاضرين في بعض المناسبات دون الاستعانة بتصفح الأوراق أو قراءتها على شكل تهيئ مسبق و منمق، وفي فترة من فترات الإعتكاف اليومي تكون ثلة من الأساتذة و الطلبة منهمكين على البحث و المطالعة في مكتبة الزاوية، التي أصبحت تضم تدريجيا أمهات الكتب و المؤلفات على مختلف التخصصات والدراسات والبحوث، بحيث تعد مركزا ثقافيا مهما يرجع إليه الباحثون من المريدين على اختلاف مستوياتهم و نوعية بحوثهم.
و لقد كان أمل شيخنا سيدي جمال رضي الله عنه أن تكون مكتبة في مستوى الإفادة والتحصيل على أحسن الظروف و الانتظام و التحقيق، و لقد تحقق قسط وافر من هذا المأمول بتوفيق من الله تعالى، إذ كان إصرار الشيخ قويا على إتمام هذا الإنجاز رغم أن الإمكانيات المادية تبدو ضئيلة و قليلة، و لكن "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ".
و بهذه المكتبة كان تتويج النشاط العلمي في الزاوية، بحيث أن كل من يريد أن يحضر درسا أو بحثا قد يلجأ إليها لتصفح المصادر و المراجع التي تهم تخصصه و نوع درسه، حتى يكون في المستوى المطلوب و ليس درسا أو بحثا عشوائيا أو مجرد آراء عابرة لا أساس علمي لها، إذ الدرس في حضرة الشيخ والمريدين قد يكون مهيبا جدا و يعتريه وقار و خشية لا تكون في غيره من المجالس العامة تأكيدا، لأنه مجلس كله خشوع و بكاء وأحوال و تضرع و صدق.
هذا ملخص موجز عن الواقع العام و المتكرر للأنشطة العلمية التي تنهجها الطريقة في الزاوية الأم، و هي أنشطة متنوعة و قارة إلى حد ما، وتعرف نفس الكثافة في كل عطلة و على مدار السنة، و تكون بمثابة نموذج رسمي وتدريبي للمريدين لكي يطبقوه في مدنهم بعد عودتهم من هذه الرحلة الروحية والعلمية، إذ أن من البرامج ما تكون نفسها المطبقة في الزوايا أو الاجتماعات الفرعية و المحلية، غير أنها قد تتفاوت من حيث الكثافة و القلة بحسب توفر الظروف لذلك من أطر قادرة على التلقين و الالتزام ببرامج الطريقة و كذلك توفر المريدين المؤهلين للتلقين و الاستفادة من التكوين العلمي المتخصص، إضافة إلى التكوين العلمي العام، إذ أن هذا الأخير ربما قد يعرف حضورا موحدا في كل المجالس التي تنتمي الى الطريقة من حيث المبدأ، و فيها يطالب العلماء والمدرسون بالتركيز خصوصا على تدريس السيرة النبوية و الفقه على المذهب المالكي ثم حكم ابن عطاء الله السكندري بشروحها.
و عند هذه المواد الثلاث يركز الشيخ على التزام التدريج في التلقين، وذلك بالاستناد عند الالقاءات الأولى على الكتب الميسرة و البسيطة في السيرة مثلا، ككتاب "نور اليقين في سيرة سيد المرسلين" لمحمد الحضري بك، و "رجال حول الرسول" لخالد محمد خالد، و في الفقه كمنظومة ابن عاشر " المرشد المعين على الضروري من علوم الدين" و في الحكم، على "إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للشيخ أحمد بن عجيبة، و هكذا . . . حتى إذا كان التلقين مكتمل الإفادة و الإجادة انتقل المدرس إلى مستوى آخر و خاصة في الفقه كاعتماد الرسالة لأبي زيد القيرواني و مختصر خليل و غيره ونفس الشيء في علوم اللغة كالنحو الذي يبتدئ بالآجرومية ثم الألفية و شروحها. و مع دقة هذه العلوم و أهميتها يكون الملقي ملزما بمراعاة مستوى الاستقبال و الفهم لدى الحاضرين فلا يعقد اللغة حيث يقتضي التبسيط و لا يبسط حيث يلزم التعقيد، بل إن الأمر قد يستدعي الإلقاء في بعض الأحيان باللغة الدارجة و لهجاتها، كمقدمات لإيصال المعاني العلمية التي تحملها النصوص الدينية والتراثية قصد تحبيبها لبعض الأميين و غيرهم، حتى يتأتى لهم استظهارها بسرعة نصا و معنى.
و هكذا يكون الهدف لدى الشيخ جديا و واضحا من التكوين العلمي للمريد، و هو غير ذي طابع جاف و اصطلاحي محض و معقد، و إنما الغاية منه الحفاظ على شخصية المريد في إطارها و روحها الإسلامي الأصيل، و السني مذهبا فقهيا و عقديا و سلوكيا.
الموازنة و التداخل الإيجابي بين العلم و الذكر:
و مع وجود هذا الإلحاح العلمي عند الشيخ إلا أنه لا يجعله غاية في حد ذاته، و إنما هو وسيلة للتقرب إلى الله تعالى بالقلب مع العقل، و بالعمل مع القول، إذ في حالة الإخلال بالشروط الروحية و السلوكية اللازمة والضامنة لسلامة العلم و دوره النافع فإن المتلقي و المحصل قد يطغى عليه الطابع "العلماني"، و هو مصطلح كثيرا ما يعبر عنه شيخنا بخصوص الذين يولون الجانب العلمي الاصطلاحي كل طاقاتهم، بينما يهملون جوهر الغاية من العلم و العمل ألا و هو تحقيق العبودية لله تعالى، و ربط العلم بموهبه عقيدة و سلوكا.
إذ علمنة الدين قد تعني التعامل معه بصورة انشطارية كما سبق وأشرنا، مما يؤدي إلى آفة الانتقائية في مجال لا ينبغي أن يكون فيه سوى التسليم المطلق للأمر الشرعي و نهيه، و ذلك بالإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم كله و دون إصدار أحكام معيارية ذاتية و مقايسات دنيوية لا تفي بالمطلب الديني و مقتضى الوعي به و بغايته.
و لهذا ففي بعض توجيهات الشيخ للمريدين - و خاصة أهل العلم - يركز على الموازنة بين مستوى الذكر لديهم و التحصيل العلمي حتى لا يطغى عليهم جفاف العقول فتنغلق لديهم سواقي القلوب و من ثم قد يقعون من حيث لا يشعرون في حيرة بين قصور العقل و مقتضى تنور القلب و اتساع مواهبه وأذواقه بالاستعداد أو الاستمداد.
و ليست هذه الموازنة خاصة بالملقين و المدرسين فقط، و إنما هي أيضا ضرورية بالنسبة للمتعلمين و المتلقين من المريدين. و لقد سمعته مرة يقول فيما أتذكره معنى بخصوص تدريس السيرة النبوية للمريدين: بأنه إذا تطابق أو تناسب حال المريد الذاكر و المعنى الملقى عليه من خلال السيرة النبوية و بإلقاء من ذاكر أيضا، فإن القدوة و الاستفادة ستكون لديه قوية وسيصبح المريد مثل الجوهرة من حيث صفاء قلبه و سلوكه.
و عند حديثنا عن السيرة النبوية و ارتباطها بالذكر في منهج الشيخ تجدر بنا الإشارة إلى أنه قد أدرج تلاوتها لدى المريدين على شكل أوراد وسلك، تركز بصورة خاصة على ختم كتاب الشفا للقاضي عياض كل أسبوع تقريبا، و ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي و عند المناسبات العامة.
و مما يندرج في السيرة كأوراد و إنشاد، قراءة منظومتي الهمزية والبردة للإمام البوصيري، بحيث قد أصبحتا محفوظتين لدى كثير من المريدين، و بهذا يكونون قد ألموا بمواضيع السيرة النبوية و خصائصها على صورة أدبية و فنية تنتقش في عقولهم و قلوبهم بأسلوب جمالي، و بوازع روحي صادق و فياض، فكانت الإفادة و الاستفادة متعددة الجوانب: أدبية وفنية إنشادية، و علمية شرعية ذوقية، و لغوية عربية بلاغية ساهم أو قد يساهم في شرحهما أي المنظومتين وخاصة الهمزية بعض الأساتذة المنتمين إلى الطريقة أثناء الاعتكافات الصيفية وربما في الأيام العادية على مر السنة.
كما أن صحيح البخاري قد يدخل ضمن الأوراد الجماعية التي يقتسم حصتها المريدون في شكل أبواب مجزأة على نمط الأحزاب القرآنية، يتم ختمها عند كل شهر أو أقل منه، ختما حقيقيا إلزاميا و ليس شكليا أو تقليديا موسميا.
و هذا منهج مفيد جدا للفقراء كي يطلعوا على صحيح السنة النبوية و بوازع روحي يبتغون من خلاله القربة إلى الله تعالى و الإقتداء بنبيه صلى الله عليه و سلم معرفة وسلوكا، و هو ما يساعدهم على حفظ الكثير من الأحاديث و سردها بأسانيدها و أبوابها وكتبها، كما يساعد على سرعة الاستشهاد بالنصوص أو معانيها عند الاقتضاء. وكأساس لكل هذه العلوم و منهجية تحصيلها يكون القرآن الكريم ضروريا لكل مريد يستطيع أن يقرأ، و هي تلاوة أو ترتيل يتم إما على شكل جماعي و إما على شكل فردي، بحيث سواء الذي حضر في المجلس اليومي و برنامجه أم لم يحضر يكون ملزما بقراءة حزبين من القرآن موزعين بين فترة الصباح و المساء.
كما أنه قد توزع (سلك) من القرآن الكريم بأعداد كبيرة قد تصل إلى المئات، و على فترات معينة و محدودة، ربما قد يأخذ الواحد من المريدين ما بين خمسة أو عشرة سلك في الشهر بحسب الاستعداد و سعة الوقت، يتلونها آناء الليل و أطراف النهار، و هذا ما يجعل المريد و إن لم يحفظ القرآن كأنه يستظهره كله حين الاستشهاد بالآيات و عند الاقتضاء، إضافة إلى هذا فالشيخ قد يطالب المريدين بحفظ القرآن الكريم لا فرق في ذلك بين صغير أو كبير أو ذي أريكة وحصير أو عالم و متعلم.
و كدليل على هذا الإلحاح فإنه قد يعلق مرارا بجانب متكئه أو مجلسه حيث يستقبل المريدين و المستطلعين لوحة من لوحات الكتاتيب القرآنية مكتوبا فيها آيات كريمات بصمغ تقليدي كحث و تشجيع للفقراء على الإقتداء به في هذا المجال.
و من باب مسايرة العصر و أساليبه الجديدة في التبليغ و التبيين والمناظرة، فإن الشيخ يوجه مريديه نحو سلوك أسلوب الندوات العلمية الراقية والمنظمة تنظيما محكما و أخلاقيا، منها ما قد يتم على مستوى المنازل و الزوايا، و منها ما قد يتم على مستوى دور الثقافة و غيرها من المؤسسات العامة التي تعرض فيها ندوات و أنشطة علمية قابلة للمناقشة والمناظرة و بسط مختلف الآراء و تطويرها أو نقدها، و كذا التوفيق بينها وإصدار توصيات بخصوصها، مع توقيعات لبعض الكتب الجديدة و عرضها . . .الخ مما هو متعارف عليه وطنيا وعالميا في مجال الندوات و الأنشطة الثقافية و العلمية الموضوعية.
و لقد حضرنا ندوات من هذا القبيل جد مشرفة لا يضاهيها في تناسقها وتناغمها الذوقي و الأخلاقي أي نشاط علمي خارج إطار الطريقة وأريحتها الروحية الفياضة، كما قد تركت صدى كبيرا لدى أوساط المثقفين وغيرهم، ونالت إعجاب الحاضرين ذوي النيات الحسنة و القلوب السليمة من الحسد و المراء بغير حق.
في حين، و كأنشطة موازية و خاصة يحث الشيخ (سيدي جمال رضي الله عنه) المريدين من المؤهلين للكتابة و التأليف أن يكثفوا من إصداراتهم سواء على مستوى الكتب أو المقالات في الصحف و المجلات، بل إن أمكنهم أن يصدروا مجلات - قد صدر بعضها - تكون في مستوى الحدث و المطلوب في الساحة، كما قد تفيد القراء على سبيل الإصلاح و النصيحة، لا الإشهار و الفضيحة أو المناقشة والمعاداة الصريحة.
و من هنا فقد ينهانا أن تصبح كتاباتنا مجالا للمهاترات و المجابهات، أو كيل الشتائم و تتبع العورات لمن يخالفنا في الرأي و المذهبيات، و حتى لو تعرض بعضنا شخصيا للنقد المباشر أو التشهير الكاذب في غير محله وعلى غير محمله، فإن المطلوب عدم المجابهة من نفس المنطق، فما دامت القافلة تسير فلا تضرها تذؤبات الرياح أو نعيق الغربان، و إنما ينبغي إغلاق المنافذ عن فتح الفرصة لتسربها إلى داخل المركب المحصن جيدا بالعلم والإيمان و الذوق والعرفان.
لكن المجابهة ينبغي أن تكون على شكل تفوق علمي موضوعي ورصين، يعالج الأمراض المستشرية من قواعدها، و يضعف حدة الألسن السليطة بمباعدة مد تصويتها، و بذلك قد تخمد تموجاتها و إيهاماتها و لا تقوم لها بعد ذلك قائمة أو يكون لها تأثير فيما بعد، لأن فضل الطريقة مشع بنورانيته و نجاح أهلها ظاهر وباهر!
و يكون حال الإعراض هذا عن المقارعة للمتعرض كما يقول الشاعر:
و لقد أمر على اللئيم يسبني فأمضي ثمة لا أسلم
و في نفس الوقت يكون لسان المعرض كأنه يقول تحذيرا:
و كالسيف إن لا ينته لان مسه و حداه إن خاشنته فخشنان
قطبية الشيخ و مبدأ وحدة العلوم في الطريقة:
و حينما يوجهنا الشيخ نحو الكتابة و التأليف فلا ينبغي أن يفهم بانحصاره في إطار علم التصوف كسلوك أو أذواق و تفسير لأحكام الأذكار و تنقيب في التراث الإسلامي من هذه الجهة فقط، و إنما هو أمر بالنهضة العلمية الشاملة، الكل في تخصصه، سواء كانت علوما شرعية و عقدية أو علوما تقنية و طبية وهندسية أو اقتصادية و اجتماعية و تاريخية . . .الخ.
و هو ما يجعلها تصبح علوما إسلامية بالضرورة حسب توجه الباحث فيها و أساسه العقدي و الروحي الذي تغذيه الطريقة بالذكر و القرآن، و صحبة الشيخ كقدوة مأذون من الله تعالى و وارث للرسول صلى الله عليه و سلم في دعوته على بصيرة.
و هذا الاتجاه لدى الشيخ في البحث العلمي الشامل يؤكد مبدأ وحدة العلوم عند الصوفية، بحيث قد تصبح كلها متناسقة و ذات غاية واحدة، تخدم عقيدة التوحيد و تؤدي إليه ما دام المتخصص فيها قد التزم طلب الحق مبدأ ونهاية.
إذ كما يقول أبو حامد الغزالي أن " جميع العلوم مقدمات و وسائل لمعرفة الأول الحق جل جلاله".
و من هنا يمكن فهم الوازع للشيخ أحمد بن عجيبة في تفسيره منظومة الآجرومية النحوية على قواعد ذوقية كما هو معلوم، و هذا مسلك صوفي دقيق لا يعرفه حق معرفته إلا المتمكنون جيدا في مجال العلم والمعرفة ظاهرا و باطنا، والذي قد يشخصه عمليا شيخنا سيدي حمزة من خلال توجيهاته للمريدين، و كذلك من خلال بعض تطبيقاته بحسب المناسبة الداعية إلى ربط المعنى الذوقي بالعلوم الاصطلاحية.
و لقد كانت بيننا ذات مرة محادثات، و خاصة حول الصحبة في الله تعالى، و انتقال أحوالها و مقاماتها من خلال الاستشهاد بسيرة الرسول صلى الله عليه و سلم وصحابته و حبهم له، فقلت لشيخي نقلا عن بعض العلماء أسلوب تعدي المحبة وانتقالها بصيغة: "محبوب المحبوب محبوب" فأجابني على الفور والبديهة من قاعدة نحوية " و المعطوف على المرفوع مرفوع".
و هذا نموذج من عدة أقوال تؤكد مبدأ و حدة العلوم عند الشيخ و قوة التناسق المعرفي لديه مما قد ينعكس على مريديه انعكاسا إيجابيا جدا، حتى إننا لنجد أساتذة في علوم الفيزياء أو الرياضيات و الطب و غيرهم يتصدرون المجالس لإلقاء دروس في علوم الشريعة و السلوك و اللغة والتجويد . . .الخ ربما قد لا يصل إلى مستواهم و تناسق أفكارهم ومعلوماتهم كثير من الخائضين في مجالات الفقه و الأصول و الفكر والحضارة كتخصصات نظرية محضة، و ذلك لأنهم يفتقدون العنصر الذوقي الرابط بين الحقيقة و المجاز و الواقع و المثال، والشخص و التمثال "وتلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون".
د. محمد بنيعيش