لعل أهم البدايات هي أن نؤكد أن الطريقة القادرية البودشيشية كدعوة صوفية معاصرة تتأسس على الشريعة الإسلامية وتقوم بدور علمي مهم في عصرنا هذا، وذلك ناتج عن التكوين العلمي لشيخها، فقد نشأ سيدي جمال الدين رضي الله عنه وترعرع وسط جو يسوده الطهر والعفاف والتقوى، وتتعطر أجواؤه بالذكر وتلاوة القرآن، ويحف به عبير الولاية ونسيم القرب من الله، ففتح عينيه على شيوخ ركع ورجال خشع، {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}، لم يكتف شيخ الطريقة عند حدود حفظ القرآن وتلقي أسس العلوم الشرعية عن مشاهير علماء المنطقة الذين كانت تزخر بهم الزاوية القادرية، بل سعى إلى التعمق في العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه ونحو وغيرهما والعلوم الوقتية، إلى أن توّج ذلك بنيله، رضي الله عنه، دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية والحديث بدار الحديث الحسنية من خلال تحقيق ودراسة مخطوط «إرشاد المنتسب إلى فهم معونة المكتسب وبغية التاجر المحتسب» لأبي سالم العياشي سنة 1415هـ موافق 1955م؛ ودكتوراه الدولة من دار الحديث الحسنية، سنة 1422هـ موافق2011م، بأطروحة تنم عن الإدراك العميق، لضرورة أخذ الأبعاد السياقية المعاصرة بعين الاعتبار، والوعي بها والاستبصار، وقد استهدفت هذه الأطروحة المباركة تجديد أداء مؤسسة الزاوية في واقعنا المعاصر، ورفع كافة التحديات ذات العلاقة. وتَمّ إنجازها تحت عنوان: «مؤسسة الزاوية بالمغرب، بين الأصالة والمعاصرة».
فالطريقة القادرية البودشيشية تعرف تجديدا علميا وتربويا متميزا، وتلك من خصائص الطرق التي يشرف عليها شيخ حي صادق، صاحب تربية روحية، إذ أنه يتوسل بالأساليب التربوية المناسبة لعصره ومريديه، ملتزما في ذلك روح الشريعة ومقاصدها، دون الجمود على بعض المظاهر التربوية التي تجاوزها الزمن·إن أول مظاهر هذا الدور العلمي إعادة ربط قلوب المريدين بكتاب الله عز وجل، فالقرآن الكريم من الورد اليومي للمريد، وهكذا بهذا الالتزام من طرف المريدين تقرأ آلاف الأحزاب في اليوم من كتاب الله، وتتنزل معها رحمة الله على الأمة، كما تنظم مجالس قرآنية بين الفينة والأخرى وخصوصا في المناسبات الدينية المتميزة، مثل أيام رمضان المعظم والمولد النبوي الشريف، فالطريقة تسعى جاهدة لربط المؤمن بكتاب الله حفظا وعلما وعملا، كل حسب طاقته وحسب ترقيه الروحي.
أما المظهر الثاني من مظاهر الدور العلمي للطريقة فهو الاجتهاد في ربط مريدي الطريقة بالسنة المحمدية، ويتجلى ذلك في عدة مستويات، فلما كانت الطريقة تربية بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اشتملت أورادها على مختلف الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم المأثورة منها وتلك التي فاضت بها بواطن العارفين وجوانح الولهين بالجناب المحمدي، ويعتبر دلائل الخيرات من ورد الطريقة، كما أن الهدي المحمدي والمواقف النبوية يطلع عليها المنتسب إلى الطريقة من خلال الأحاديث الصحاح الواردة في كتاب الجامع الصحيح للإمام البخاري وكتاب الشفا للقاضي عياض، واللذين يعتبران من الكتب التي تقرأ قراءة الأوراد في الطريقة، وهو شيء يساعد المنتسب إلى الطريقة على تحصيل نصيب مهم من السنة النبوية·
وتأتي الدروس العلمية في السيرة النبوية والتي تنظم في مختلف الزوايا الفرعية لتعميق وتوسيع المعلومات عن حياته صلى الله عليه وسلم وعن خلقه العظيم، فينشأ المريد متشبعا بمحبته صلى الله عليه وسلم، متشوقا إلى الاقتداء به في كريم أخلاقه·
حرص الشيخ سيدي جمال القادري البودشيشي، وهو العالم المتضلع في العلوم الشرعية والذي درسها وهو لايزال شابا يافعا، على أن يتزود المريد بثقافة فقهية، كل على حسب استطاعته، ولكن الكل مطالب بمعرفة الضروري من علوم الدين، إذ لا يعبد الله بجهل، ولهذا اجتهد المريدون بمختلف أعمارهم من طفلهم إلى كهلهم، ومن أميهم إلى مثقفهم في تحصيل ثقافة فقهية ينبني عليها العمل.
لقد اجتمع لمريد الطريقة القادرية البودشيشية في المجلس الواحد روض الجنة وروض العلم، فهو يرتع في رياض الجنة مع إخوانه الذاكرين لاهجا بأسماء الله تعالى وبصفاته التامات العليا، كما أنه يقطف ألوان المعرفة من رياض العلم رفقة علماء متخصصين، وسيفاجأ من يقصد الزواية الأم خلال شهر غشت بأن يجد نفسه في جامعة صيفية، فالزاوية في هذه الفترة تكون محجا للأساتذة والطلبة الجامعيين من كل بقاع الأرض، يجمعهم هم واحد، التزود بالعلم والعمل، وهكذا يجد المتعطش إلى المعرفة بمختلف فروعها ضالته في هذا الجو الروحي المتميز، فتنعم الروح بغذائها، ويتزود الفكر بزاده.
الملحوظة في الطريقة البودشيشية أنها تفتح ذراعيها لكل عالم يقصد بعلمه وجه الله تعالى ويسعى إلى بث العلم الشرعي في الأمة، بل إن من أهم خصال الشيخ سيدي جمال تقدير العلماء وإحلالهم المكانة اللائقة بهم وإكرامهم، وهو يقول عن ذلك بأن في إكرامهم إكراما للعلم الشريف الذي يحملونه، ويحث المريدين على التخلق بهذه الأخلاق مع العلماء.
الدور التربوي : أما بالنسبة للدور التربوي للطريقة فهو ينبني أساسا على المنهج القرآني والنبوي في التربية، والذي ينبني أساسا على الذكر المأذون النوراني، فحلق الذكر المصاحبة لهذه الحلق العلمية زاد روحي قوي للمسلم في هذا العصر الذي تحيط فيه الغفلة بنا من كل جانب، فهي تضم بالإضافة إلى الذكر المرتب والأذكار الجماعية، حصصا من السماع والمدائح النبوية.
لم يكن التصوف الحقيقي في يوم من الأيام انعزالا ولا انكماشا، بل هو دخول في معترك الحياة، ولكن بأسلوب نبوي حكيم، يفضل الرفق على العنف، والتسامح على الانتقام، واللين على الشدة، ولا تتبين هذه الحقيقة في هذا العصر إلا لمن عاشها في رحاب الطريقة القادرية البودشيشية وتربى في أحضانها·إن الطريقة تمتحّ من معين الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء، ومن شمولية الدعوة الإسلامية، لهذا فهي تفتح أبوابها لكل تائب آيب إلى الله تعالى، لا تعادي أحدا، وإنما تعادي الأفعال التي قبحها الشرع وتدعو إلى كل ما حببه الشرع، تدعو للمغاربة بمختلف اتجاهاتهم رئيسهم ومرؤوسهم بالتوفيق والسداد إلى ما فيه خير العباد والبلاد، لا تبتغي بذلك إلا رضا الله تعالى، فالخلق عيال الله، وأحب الناس إلى الله أنفعهم لعياله، ولا نفع للخلق مع فتنة تأكل الأخضر واليابس وتلتزم الطريقة مبدأ التبين والتثبت ولا تنعق وراء كل ناعق، فإذا تحققت من فساد الفاسد سعت إلى صلاحه وإذا تحققت من صلاح الصالح آزرته وأيدته فهي تسعى إلى أن تحارب في الفرد آفتي تعظيم الذات وتحقير الآخر، فللخلق رب يقلب القلوب بين أصبعيه، هذه هي الأبعاد التربوية التي تسعى الطريقة إلى ترسيخها في المنتمين إليها، لا تبتغي من وراء ذلك إلا وجه الله تعالى، وهي أبعاد تربوية لا يمكن التزامها إلا إذا تشبعنا بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.
لقد انطلقنا من المبادئ لنصل إلى البدايات، ووراء البدايات خير عميم وفضل كبير، لمن ألقى السمع وهو شهيد، وماذا عسى المنصف أن يقول في طريقة هذا ديدنها، ومن الكتاب والسنة منهجها، فلندع قول الزور والعمل به، ولا نكتم الشهادة إذا كنا ممن عاين هذا الأمر وعلم حقيقته، ولندع معاداة أهل الله جانبا، فقد أنذرنا الله تعالى في الحديث القدسي بقوله: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)، ولنعلم أن الوعد الإلهي لا يخلف فقد قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ولنكن في زمرتهم، فالمرء مع من أحب، ولنكن دعاة الخير والسلام والمحبة.