ولقد خلق الله الإنسان وفضَّله عن كثير من خلقه كما قال : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾
ولما حاز الفضل حمَّله الأمانة لقوله عزَّ مِنْ قائل : ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾.
أي الفرائض التي افترضها على عباده كما أشار إلى ذلك الطبري في تفسيره، أو مسؤولية جعل الإنسان خليفة الله في أرضه لقوله تعالى : ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، وبذلك لم يتركه الله أسيرا لظلمات شهواته، بل اصطفى له رسلاً لهدايته الصراط المستقيم كما قال عز وجل : ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ وختم هذه الرسالة بمصطفاه وخير خلقه محمد صلوات الله وسلمه عليه لِيُتِمَّ نعمته على عباده بهدايتهم إلى طريق الهدى صراط العزيز الحميد كما وصف فضله على أمته عز من قائل : ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾.
أما المصدر الثاني الذي يرتكز عليه الخطاب الديني هي سنة من اصطفاه المولى عز وجل من قول أو فعل أو تقرير. إن فحوى الخطاب الديني عموما تمركز في بدايته حول ترسيخ عقيدة الإيمان بوجود واجد الوجود وعظمته ووحدة ربوبيته وألوهيته وتنزيهه من الشرك. فكانت سلوكات النبي صلى الله عليه وسلم المتلقي للوحي، والذي نفث روح القدس في روعه ، هي النموذج الأمثل في الاقتداء. فكان أول من دعا أمته تزكية النفوس وجهاد هواها كما ذكر ابن البطال في شرحه على صحيح البخاري أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه، وقد انصرفوا من الجهاد: "أتيتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: مجاهدة النفس". وقال سفيان الثورى: "ليس عدوك الذى إن قتلته كان لك به أجر، إنما عدوك نفسك التي بين جنبيك، فقاتل هواك أشدّ مما تقاتل عدوك".
ومنه نخلص إلى أن التصوف قبل مرحلة التدوين كان سار في سلوكه صلى الله عليه وسلم وسلوك الصحابة والتابعين، كالخليفة عمر رضي الله عنه الذي عرف بالزهد. وهذا كان بالاجتهاد في العبادة والزهد في الحياة الدنيا ولكنهم لم يُعَرَّفُوا باسم الصوفية. إنما ظهر هذا الاسم لأول مرة مقترنا باسم أبي هاشم الصوفي (ت 111ه)، ليقترن أيضا باسم جابر بن الحيان الصوفي أيضا إلخ...