فصل
عالم الفضل أشهدهم على أنفسهم و ألهمهم التوحيد والتقوى ،وعالم العدل أشهدهم على أنفسهم و ألهمهم الفجور والمعصية ، ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) . عالم الفضل عاملهم وعالم العدل أهملهم ، وعالم الفضل عاملهم بفضله وأدناهم، وعالم العدل أهملهم بعدله فأقصاهم .
فصل
ليس الخوف من سوء العاقبة و إنما الخوف من سوء السابقة ، إن الله تعالى خلقَ الخلقَ في ظُلمةِ ثُمَّ رشَّ عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النُّورِ اهتدى ومَن أخطأه كان من عالم العدل، وليس ذلك النور عبارة عن شعاع ينبسط على صورهم و أشباحهم و إنما هو عبارة عن نور ينبسط على قلوبهم و أرواحهم ، و هو عبارة عن نور الهداية كما قال الله تعالى : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ) فالمشكاة بمنزلة بشريتك ، والمصباح بمنزلة نور توحيدك ، وأمّا الزجاجة بمنزلة قلبك ، وتشبيه البشرية بالمشكاة لما في البشرية من الكثافة فهي محل ظلمةٍ و سوادٍ والمصباح كلما كان في الظلمة والسواد كان أشد في الاشتعال و الإيقاد ، وتشبيه نور التوحيد بنور المصباح ليستضيء به ما يجاوره و يَحُلَّ فيه ، وتشبيه القلب بالزجاجة لما فيها من اللطافة ، فإن الزجاجة شفَّافة تطرح أشعة الأنوار على ما يقابلها ويحاذيها من الأجرام ، والقلب شفاف وتعكس منه أشعة أنوار التوحيد إلى ما وراءه من الجوارح و إليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : " لو خَشَعَ قلبُهَ لخَشَعَتْ جوارحُه " وتشبيه الزجاجة بالكوكب الدري إشارة إلى إشراقها و استنارتها ، و الدري منسوب إلى الدُّر وهو مبالغة في استنارته وصفاء جوهريته ( يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ) وذلك أكثر إيقاداً و صفاء لدهنها ، وكذلك شجرة التوحيد لا شرقية ولا غربية ولا معطلة ولا وثنية و لا دهرية و لا ثنوية و لا يهودية و لا نصرانية و لا مشبهة و لا معتزلة و لا قدرية و لا جبرية ، بَلْ مُـحَـمَّـديّة سنيَّة، وكما أن تلك الشجرة لا شرقية و لا غربية، كذلك شجرة التوحيد لا أرضية ولا سماوية و لا عرشية و لا فرشية و لا فوقية و لا تحتية و لا عُـلْـوية و لا سفلية ، انفصلت عن الخلق و طارت في طلب الحق فهي عن الخلق منفصلة و بالحق متصلة فصارت لا شرقية و لا غربية و لا دنيوية و لا أخروية ولا تريد لذة الدنيا و لا لذة الآخرة بل تريد وجهه، وإن شئت قل : لا شرقية و لا غربية لا ترغب إلى الجنة ولا تخاف من النار ، و إن شئت قل : لا شرقية و لا غربية لا يغلب عليها الخوف فتيأسُ من روح الله، و لا يغلب عليها الرجاء فتأمن من مكر الله فهي واقفة بين الخوف والرجاء " لو وُزِنَ خوفُ المؤمن و رجاؤهُ لاعتدلا " فهي لا شرقية ولا غربية ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) أي لصفائه و إشراقه ( نُّورٌ عَلَى نُورٍ ) نور الدّهن على نور المصباح و نور المصباح على نور الزجاجة (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء).
إن أشرقت شمس التوحيد من فلك التفريد على أرض قلبك اضمحلت رسوم نفسك و انقشعت ظلمات بشريتك ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ) و رأيت صفوة الخلائق و سائر الأنبياء يسيرون تحت لواء " لا إله إلا الله " كل نبي زمرته و أتباعه، بالله هل لك معهم نفس ، أو فيما بينهم قدم ؟ لا ، كلا كلا ، و لا مشيت قدماً فى متابعتك أو راعيت نفساً في مراقبتك ، بل عبادتك مشوبة بالحظوظ وخلواتك ممزوجة بالأغراض و أذكارك مخلوطة بالغفلات و حركاتك و سكناتك مشوبة بسوء الأدب ، أترى إذا صليت و قلت " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ " و أنت ملتفت إلى غيره هل تكون قد توجهت إليه ؟ و إذا أمسكت عن طعامك وشرابك عادة لا عبادة ، هل أمسكت لأجله ؟ كلا " كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، وكم من مصلّ ليس له من صلاته إلا التعب والنصب " تالله مجرد الصورة لا يكفى ومجرد القول لا يغنى (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا ) الآية . القول بمنزلة الورق من الشجرة ، فإنّ كلمة التوحيد بمنزلة الشجرة ( كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ ) فعروق هذه الشجرة التصديق و ساقها الإخلاص و أغصانها الأعمال و أوراقها الأقوال ، فكما أنّ أدنى ما في الشجرة الأوراق فكذلك أدنى ما في الإيمان الأقوال .