آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم -44

ثم إذا ستر الحق تعالى مساويك وذنوبك، ثم توجه الناس إليك بالتعظيم والمجد والتكريم، فاعرف منَّة الله عليك، وانظر مَن الممدوح في الحقيقة هل أنت أو من ستر مساويك ؟ كما أبان ذلك بقوله : 

(مَنْ أَكْرَمَكَ إِنَّمَا أَكْرَمَ فِيكَ جَمِيلَ سَتْرِهِ، فَالْحَمْدُ لِمَنْ سَتَرَكَ لَيْسَ الْحَمْدُ لِمَنْ أَكْرَمَكَ وَشَكَرَكَ) 


قلت : إذا كان الحق تعالى تولى حفظك برعايته، وستر مساويك بستر عنايته، فغطى وصفك بوصفه ونعتك بنعته، ثم توجه الناس إليك بالتعظيم والتمجيد والتكريم، فاعرف منَّة الله عليك، وانعزل عن شهود نفسك، فمن أكرمك، فإنما أكرم فيك جميل ستره {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء:الآية83] {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا}[النور:الآية21].

فالحمد في الحقيقة إنما هو لمن سترك لا لمن أكرمك، إذ لو أظهر للناس ذرة من مساويك لمقتوك وأبغضوك، فاشكر الله على ما أسدى إليك من الكرم، وغطى عليك من المساوىء التي توجب أنواع الأذية والنقم.

قال الشيخ زروق رضي الله عنه : إذ لولا ستره عن المعاصي ما كنت مطيعاً، لولا ستره فيها لكنت مهاناً عند الخلق ومخصوصاً بالمقت بينهم، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين، فالخلق كلهم إنما يتعاملون بينهم بستر مولاهم، ولو خلا عبده من ستره لأبغضه أحب الناس إليه ولأذاه أشفق الخلق عليه ولأهلكه أرأف الخلق به. ولله در القائل : 

يظنونَ بي خيراً وما بي من خير      ولكنّني عبدٌ ظلومٌ كما تدري
سترتَ عيوبي كلَّها عن عيونِهِم         وألبستني ثوباً جميلاً من السَّترِ
فصاروا يحبوني وما أنا بالذي      يُحِبُّ ولكن شبَّهوني بالغيرِ
فلا تفضحني في القيامة بيْنَهم                وكُنْ لي يا مولاي في موقفِ الحشرِ

ولما بلغت الأذية كل مبلغ من حبيب الله صلى الله عليه وسلم ما زاد على أن قال:(لا غنى لي عن عافيتك، عافيتك أوسع لي) الحديث. وسيأتي التقسيم في شهود الخلق في حالة النعم.

وإن الناس على ثلاثة أقسام : قوم عوام لا يشهدون إلَّا الخلق، وقوم خواص لا يشهدون إلَّا الخالق، وقوم خواص الخواص يشهدون الخالق في الخلق والموسوط في الواسطة، فيعطون كل ذي حق حقه كما يأتي مبيّناً إن شاء الله.

وإذا تحقَّقتَ أن الذي أكرمك هو الذي ستر عيوبك وغطى مساويك بعد اطلاعه على خفاياها وعلمه بخباياها، فاتخذه صاحباً وكن له مراقباً ودع الناس جانباً، كما نبَّه عليه بقوله : 

(مَا صَحِبَكَ إِلاَّ مَنْ صَحِبَكَ وَهُوَ بِعَيْبِكَ عَلِيمٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ مَوْلاَكَ الْكَرِيمُ)


قلت : وإذا علمت أنه ليس لك صاحب إلَّا مولاك فاعرف حقيقة صحبته والزم الأدب في ظاهرك وباطنك واستحي منه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه :(اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) فالصاحب الذي يدوم لك هو الذي يصحبك وهو عالم بعيبك لأن ذلك داع للسلامة من التكلف الرياء والتصنُّع، وليس ذلك إلّا مولاك العالم بخفاياك المطَّلع على سرك وعلانيتك، أن عصيته سترك وأن اعتذرت إليه قبل عذرك.
وقد قيل من الحكمة في قوله تعالى :{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم}[التوبة:الآية 111] مع أن الكل ملكه ثلاثة أشياء، أحدها : البشارة بعدم الرد بالعيب لأن المشتري عالم به. الثاني : ليسلِّم العبد نفسه إليه فيتولى تدبيره إذ لا يتم بيع إلاّ بالتسليم ولا كفالة إلا بعد إقباض. الثالث : إظهاراً لتمام الفضل في ظهور النسبة لله سبحانه وذكر الصحبة في جانب الحق، وقعت في حديث :(أنتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَر) واختلف في إطلاقه في غير ذلك المحل، والظاهر أن الشيخ يرى ذلك في محل إشارة الأدب والانحياش عليه. مر أبو حامد الغزالي في بعض كتبه قاله الشيخ زروق رضي الله عنه. 

واعلم أن الأمر الذي يُرَغِّبُ في الصُّحبة ويعقد المحبة والمودَّة أمران، أحدهما : ما تقدم من كون الصاحب يغطي شينك بحلمه ويستر وصفك بوصفه. والثاني : كونه يحبك ويطلبك إلى حضرته من غير غرض ولا منفعة له في صحبتك. وإلى الثاني أشار بقوله : 

(خَيْرُ مَنْ تَصْحَبُ مَنْ يَطْلُبُكَ لَكَ لا لِشَيْءٍ يَعودُ مِنْكَ إليهِ)


قلت : ولا يوجد هذا الوصف المجيد إلّا للغني الحميد الفعّال لما يريد، يحب من يشاء بلا علة ولا سبب ويمقت من يشاء بلا ضرر يلحقه ولا تعب، يُقَرِّبُ من يشاء بلا عمل ويبعد من يشاء بلا زلل، لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، ولو شاء ربك ما فعلوه ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً. وكلامنا إنما هو مع أهل التحقيق.

وأما باعتبار الحكمة وأهل التشريع فلا يظلم ربك أحداً ولكن فاعل السبب هو فاعل المسبب، من وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلًّا نفسه. وللجيلي رحمه الله :

إذا كنتُ في حُكمِ الشريعةِ عاصياً       فإنِّي في حكمِ الحقيقةِ طائعُ

فخير من تصحبه، أيها الإنسان، مولاك الذي يطلبك لحضرته ويجتبيك لمحبته من غير نفع يعود منك إليه، وإنما هو برور وإحسان منه إليك فكيف تتركه وتطلب الأنس بغيره وضرره وأقرب من نفعه.

قال بعضهم : جرِّب الناس تجدهم عقارب فإذا طلبت الصحبة فاصحب العارفين الذين ينهضك حالهم ويدلك على الله مقالهم. ولله در صاحب العينية حيث يقول في عينيته :

فشمِّرْ ولُذْ بالأولياءِ فإنَّهُمْ                لهُمْ مِنْ كِتابِ الحَقِّ تلكَ الوَقَائِعُ
هُمُ الذُّخْرُ لِلمَلْهُوفِ والكَنْزُ والرَّجَا     وَمِنْهُمْ يَنَالُ الصَّبُ ما هو طامعُ
بهم يَهتدي لِلعينِ مَنْ ضَلَّ في العَمَى    بِهِمْ يَجْذُبُ العُشَّاقُ والربعُ شاسعُ
هُمُ النَّاسُ فالزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنَابَهُم       ففيهم لضرِّ العالمينَ منافعُ

وقال في التحذير من صحبة غيرهم من الغافلين والعوام :

وقاطِع لمَن واصلتَ أيام غفلةٍ        فَمَا واصَلَ العُذَّالَ إلَّا مُقاطعُ
وجانِب جنابَ الأجنبي لو أنَّهُ        لِقُرْبِ انتسابٍ في المنامِ مُضاجعُ
فللنفس من جلاسها كل نسبة         ومن خلّة للقلب تلك الطبائع

والحاصل : أنَّ صُحبة من يوصل إلى الله فما هي إلَّا صحبة الله إذ ما ثمَّ سواه، والنظر إلى العارف بالله فإنما هو نظر إلى الله إذ لم تبق فيه بقيَّة عليه لغير الله، فصار نوراً محضاً من نور الله، وفيهم قال عليه السلام : (إنَّ لله رجالاً مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ سَعِدَ سَعَادَةً لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَداً) وهم موجودون لا ينقطعون أبداً، ظاهرون ظهور الشمِس لا يخفون إلَّا على من أراد الله منه طرداً وبُعداً والعياذ بالله من السلب بعد العطاء ومن سوء القضاء وشماتة الأعداء وعضال الداء وخيبة الرجاء وزوال النعمة وفجأة النقمة آمين.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية