آخر الأخبار

جاري التحميل ...

محاسن المجالس أو بیان فی مقامات السادة الصوفیة -9

الفصل التاسع : الشكر

وأما الشكر فهو رؤية النعمة من المنعم والثناء على معطيها، والقيام بحقها والإقرار بوجودها. ويفتقر الشاكر إلى معرفة النعمة من المنعم وقبولها والثناء بها على معطيها وهو من منازل العامة، لأنه معارضة طوله بحولك ومقابلة نعمته منك بقولك. وإنما لم يكن ذلك من منازل الخواص لأنهم رأوه قياماً بمكافأة المعطي، وهو يأمن رقِّ المنَّة، واستراحة من حبل الجود وأداء لحق النعمة {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فالشكر عند القوم أن لا يشهدوا في حال النعمة سوى المنعم، فإذا شهدوه عبودية، استعظموا منه النعمة، وإذا شهدوه حبًّا استحلوا فيه الشدة.

وإذا شهدوه تفريداً لم يشهدوا منه شدة ولا نعمة فيكونون في شغلهم به واستغراقهم فيه وغيبتهم في حال شهودهم شغل به عن معرفة المنحة والمحنة والنعمة والشدة في حال فنائهم كالنسوة حين شاهدْنَ"يوسف" عليه السلام وَبَهَرَهُنَّ حسنه فَفَنَيْنَ عن أنفسهن، وقطَّعْنَ أيدهن، وغاصت السكاكين بعد قطع "الأترج" حتى قطعن أيدهن. وهذا يطرأ من مشاهدة مخلوق لمخلوق آخر، فلا يعد بالقياس الجلي أن يطرأ على العارف بالله تعالى من مشاهدة فردانية الذات وصمديتها وقِدَمها، وصمديتها وبقائها، وحياته التي لا يعقبها موت، وعلمه الذي لا يعقبه جهل، وإرادته التي لا يعقبها عجز، وسمعه الذي لا يعقبه صمم، وبصره الذي لا يعقبه عمى، وكلامه الذي لا يعقبه خرس، وإدراكاته التي لا تنفيها أضداد. وشاهد منه جمال هذا الوجه وهذه الصفات، وشاهد جلاله عن النقائص : من الجسمية والجوهرية والعرضية وعن كل ما يطرق إلى نقصه. وشاهد افتقار الأفعال إليه واستحالة وجودها دونه، فينشد لا محالة في حاله :

رَأَيْتُ رَبِّي بِعَيْنِ قَلْبِي         فَقُلْتُ لاَ شَكَّ أَنْتَ أَنْتَا
أَنتَ الَّذي حُزتَ كُلَّ أَينٍ      بفحَيثُ لا أَينَ ثَمَّ أَنتا
وَجُزْتَ حَدَّ الدُّنُوِّ وَالبُعْدِ      لاَ يَعْلَمُ الأَيْنَ أَيْنَ أَنْتَا
أَحَطتَ عِلماً بِكُلِّ شَيءٍ       فَكُلُ شَيءٍ أَراهُ أَنْتَا
وَفي فَنائي فَناءُ فَنائي        وَفي فَنائي وَجَدتُ أَنتَا
فَمُنَّ بِالعَفْوِ يَا إِلاَهي         فَلَيْسَ أَرْجُو سِوَاكَ أَنْتَا

وكما قيل :

لَسْتُ أَدْرِي أَطَالَ لَيْلي أَمْ لاَ        كَيْفَ يَدْرِي بِذَلِكَ مَنْ يَتَقَلاَّ
لَوْ تَفَرَّغْتُ لاستِطالَةِ لَيْلِي         وَلِرَعْيِ النُّجُومِ كُنْتُ مُخِلاًّ
إِنَّ العَاشِقينَ عَنْ قِصَرِ اللَّيْلِ        وَعَنْ طُولِهِ مِنَ الهَجْرِ شَغَلاَ

مع أنَّ الشكر لا طريق إلى القيام به ولا سبيل إلى الخروج عن عُهدة واجبه، فإنه يتناهى ولا ينتهي؛ إذ شكرك لله تعالى على النعمة نعمة مستجدة يجب له عنك فيها الشكر. فالشكر يفتقر إلى شكر، فهي تقوم بحقه. وفيه قيل : 

وَمَتَى أَقُومُ بِشُكْرِ مَا أَوْلَيْتَنِي      وَالقَولِ فيكَ عُلُوُّ قَدْرِ القَائِلِ 

وقال آخر : 

إذا كانَ شُكرِي نِعمَةَ اللهِ بِنِعْمَةٍ       عليَّ له فيها وََجبَ الشُّكرُ 
فكيف وقوعُ الشكر إلا بفضله        وإن طالت الأيامُ واتصل العمر
فَمَالِي عُذْرٌ غيرَ أَنِّي مُقَصِّرٌ           وَعُذْرِي إِقْرَارِي بأن ليس لي عُذْرُ
إِذَا عَمَّ بالنعماء عَمَّ سُرورها        وَإِنْ خَصَّ بِالبَلْوَى أَعقبها الأَجْرُ
فَمَا مِنْهُ إلاَّ مِنَّةً فَوْقَ نِغْمَةٍ              تَضِيقُ بِهَا الأَوْهامُ وَالسِّرُّ والجَهْرُ


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية