إذا قال الصوفي: "لا أرى شيئاً غير الله"، فهو في حال وحدة شهود. وإذا قال: "لا أرى شيئاً إلا وأرى الله فيه"، فهو في حال وحدة وجود. ولعل هذا أوجز تبسيط ممكن لهذين الاصطلاحين اللذين يختزلان التجربة الصوفية في كل أبعادها. فحال وحدة الشهود هي حال الفناء، وحال وحدة الوجود هي حال البقاء. والفناء والبقاء متلازمان، لاينفك أحدهما عن الآخر؛ وكذلك وحدة الشهود ووحدة الوجود: فإذا كنت فانياً عن شيء، فأنت لابد باقٍ بغيره؛ أو إذا كنت باقياً في شيء فأنت، لامحالة، فانٍ عن سواه.
يقول ابن عجيبة: "إن الفناء هو أن تبدو لك العظمة فتنسيك كل شيء، وتغيبك عن كل شيء، سوى الواحد الذي "ليس كمثله شيء"، وليس معه شيء. أو تقول: هو شهود حق بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق... فمن عرف الحق شهده في كل شيء، ولم يرَ معه شيئاً، لنفوذ بصيرته من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، ومن شهود عالم المُلك إلى شهود فضاء الملكوت. ومن فني به وانجذب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كل شيء ولم يثبت مع الله شيئاً."
إن الفناء والبقاء متلازمان : فلا فناء بلا بقاء،ولا بقاء بلا فناء. والفناء الصوفي، هو فناء عن الخلق وبقاء بالحق. والصوفي أبداً ما بين فناء وبقاء.
ووحدة الشهود نوع من التوحيد يختلف عن توحيد الإيمان الذي نصت عليه الشريعة، من حيث إن التوحيد الشهودي توحيد يقيني، تجريبي، أو ذوقي. بينما التوحيد الشرعي إيماني، نقلي، يُلتمَس إليه الدليل بالنظر العقلي. وعلى هذا، فإن التوحيد الشهودي، أو وحدة الشهود، حال أو تجربة، لا فكر واعتقاد. يقول الدكتور أبو العلا عفيفي: "هو التوحيد الناشئ عن إدراك مباشر لما يتجلَّى في قلب الصوفي من معاني الوحدة الإلهية في حال تجلُ عن الوصف وتستعصي على العبارة؛ وهي الحال التي يستغرق فيها الصوفي ويفنى عن نفسه وعن كل ميل سوى الحق، فلا يشاهد غيره لاستغراقه فيه بالكلية." ثم يتابع قائلاً: "هذا هو الفناء الصوفي بعينه، وهو أيضاً مقام المعرفة الصوفية التي ينكشف فيها للعارف معنى التوحيد الذي أشار إليه ذو النون المصري إذ يقول: "إنه بمقدار مايعرف العبد من ربِّه يكون إنكاره لنفسه؛ وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات". ثم يتابع عفيفي: "فإن العبد إذا انكشف له شمول القدرة والإرادة الإلهية والفعل الإلهي، اضمحلت الرسوم والآثار الكونية في شهوده وتوارت إرادته وقدرته وفعله في إرادة الحق وقدرته وفعله. ووصل إلى الفناء الذي هو عين البقاء: لأنه يفنى عن نفسه وعن الخلق ويبقى بالله وحده.".
وينقل عفيفي عن التهانوي قوله: "والتوحيد عند الصوفية معرفة وحدانيَّته الثابتة له في الأزل والأبد، وذلك بألا يحضر في شهوده غير الواحد جلَّ جلاله... فيرى صاحب هذا التوحيد كل الذوات والصفات والأفعال متلاشية في أشعة ذاته (أي ذات الحق – التفسير من تدخل عفيفي) وصفاته وأفعاله، ويجد نفسه في جميع المخلوقات كأنها مدبِّرة لها وهي أعضاؤها." ثم يقول التهانوي: "ويرشد فهم هذا المعنى إلى تنزيه عقيدة التوحيد عن الحلول والتشبيه والتعطيل، كما طعن فيهم [أي الصوفية] طائفة من الجامدين العاطلين عن المعرفة والذوق، لأنهم إذا لم يثبِتوا معه غيره فكيف يعتقدون حلوله فيه أو تشبيهه به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً."