آداب المعرفة أربعة :
الأول : إعطاء الحكمة أهلها، ومنعها من غير أهلها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "أَيُّهَا النَّاسُ لا تُعْطُوا الْحِكْمَةَ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا ، وَلا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ".
وقال بعضهم : سكوت العارف أنفع، وكلامه أشهى وأطيب. ورأس الحكمة مخاطبة الناس على قدر عقولهم.
الثاني : التزام الأدب في كل شيء مع الله عز وجل، وأعظم الأدب معه حفظ أسرار الحق، صيانةٌ عن الخلق، فهو مع الخلق برسمه، ومع الله بالله، كما قال بعضهم - وقد سئل عن العارف - فقال : "العارف في نومه ويقظته لا يرى غير الله، ولا يراقب غير الله، ولا يطالع غير الله"، وعند العارف من الاتساع ما يلبِّس به الحقائق بالرسوم، فهو في وادٍ وهم في وادٍ.
الثالث : ملازمة الهيبة والصعود إلى غايتها، فإن الهيبة من أمارات المعرفة، كلما ازدادت معرفته؛ ازدادت هيبته، وقد يعبر عن الهيبة بالخشية. قال تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا أعرفكم بالله، وأنا أدكم له خشية".
يفهم من هذا الكلام أن المعرفة محو مطلق. والمحو المطلق فناءٌ عن الرسوم والصفات. والهيبة من الرسوم والصفات.
فالجواب : أن العارف وإن كان بهذه المثابة من الاستغراق في معروفه، والاستهلاك في موجده، لوجود شهوده. فمن علامات قربه وإن اختطف عن إحساسه أن تبقى رسوم الأدب محفوظة عليه، بحفظ الله تعالى إياه عليه، وإقامته فيها مقام الحمل، فيكون سرُّه مستغرقًا في شهوده، ورسمه قائمًا بوظائف معبوده.
الرابع : الصعود أبدًا إلى الغاية، فلا يقنع من الله تعالى بحال وقته، كما لا يقف عن السير إليه، وكلما سنح له من الطباع البشرية سانحٌ، أخمد ناره بنور معرفته، تنزيها عن مقتضيات الطباع، وجريًا في ميدان المعرفة على العيان، فهو يرقى أبدًا من حالٍ إلى حال، ومن منزلٍ إلى منزل.
ثمرات المعرفة :
اعلم أن الروح إذا كمل صفاؤها، ورسخت أقدامها في معرفة الحق، اتصفت بإحدى عشرة خصلة حميدة، تترقى بها عن إحدى عشرة صفة دونها.
الصفة الأولى : الحريَّة؛ ومعناها : أن يكون العارف فرد الفرد، من غير أن يكون تحت رق شيء من الموجودات، لا من أعراض الدنيا، ولا من أعراض الآخرة، فالحرية عبارة عن غاية التصفية والطهارة، فالمُكاتبَب عبد ما بَقِيَ عليه درهم.
الثانية : الوجود؛ وهو الفوز بحقيقة الأشياء في الأصل، وهو عبارة عن إدراك مقام تضمحل فيه الرسوم بالاستغراق في الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، وبذلك ترقى الروح إلى مقام تضمحل فيه ظلال الأوهام، عند سطوع أنوار الحقائق.
الثالثة : الجمع الأتم؛ وهو الذي يعبرون عنه بجمع الجمع، الذي يقضي بجمع الإشارات والشخوص عن الأمارات والمعاملات، بعد صحة التمكين، والبراءة من التلوين. وبذلك ترقى الروح عن شهود غير الله في شهود الجمع.
الرابعة : الصَّحو؛ وهو عبارة عن تمكين حال المشاهدة واتصالها، مع برء الروح من لدغات الدهش، وترويحه من ضغطة صدمات التلف.
ولا ينال كمال الصحو إلا بحياة الروح، بوارد الجمع ولوائح الوجود، وذلك يرقي الروح عن الدهش المذهل عن التمكين من مطالعة جمال الحضرة.
الخامسة : التحقيق؛ وهو الوصول إلى المعرفة بالله، الذي لا تدركه الحواس، لتخليص المشرب من الحق بالحق، حتى تسقط المشاهدات، وتبطل العبارات، وتفنى الإشارات.
ولذلك قالوا : من عرف الحق كلَّ لسانه.
السادسة : البسط؛ ونعني به : بسط الروح، باسترسال شهود المعاني، عند تصفيتها من شهود حس الأواني، لأن كأس المعاني حلو المذاق، فكل من صفا مشربه، دام بسطه وفرحه.
ولا بد من حفظ السر في هذا المقام، لأن البسط مزلة أقدام، وصاحب هذا المقام عَلَمٌ في طريق الإرشاد، وإمامٌ يهتدي به جميع العباد، ومصباح يستضيء بنوره السالكون، ويقطف من ثمار حكمته الواصلون. وذلك يرقى بالروح عن واردات القبض المستمد من الطبع.
السابعة : التلبيس؛ والمراد به تغطية الأسرار بأستار الأسباب، إبقاءٌ على الكافة خوفًا من التعالي، والفتنة، وتوفيةٌ لحق الحكمة، وذلك من خواص الأنبياء، ثم بعدهم الأئمة الربانيون، الذين يربون السالكين بصغار الحكمة قبل كبارها، وذلك يرقى بالروح عن إطلاق العبارات، بما لا يحمله عقل كل إنسان.
الثامنة : البقاء؛ والمراد به الخروج من فَناء المشاهدة إلى بقاء المعرفة، من غير أُفُولٍ يُخِلُّ بشمس المشاهدة، ولا رجوع إلى شواهد الحس، إنما هو استصحاب الطرب، مع استئناس الروح. فهو كما قالوا :"كبائنٍ دانٍ" أي : كبعيدٍ قريب، وذلك يرقى بالروح عن الضعف عن حمل واردات الحق.
التاسعة : السِّرُّ؛ وهو قريب من التلبيس، لكن التلبيس أقوى، لأنه ستر حسام الجمع في قراب التفرقة، إبقاءٌ على الكافة، بالسلامة من الحيرة. والجمع بين الجمع والتفرقة أمرٌ صعب. وأما السر فهو أضعف، لأن صاحبه يشير إلى منزل وهو في غيره، فمنفعة هذا قاصرة على نفسه لحكمة حكم بها الحكيم العليم، بخلاف صاحب التلبيس، إذ قد قيَّضه الله لمنفعة عباده. وذلك يرقى بالروح عن ضيق البوح الهاتك لستر السر القادح في الغيرة.
العاشرة : الاتصال؛ وهو اتصال الوجود بتوالي الجمع، لكن لا يدرك هذا الاتصال بوصف، ولا ينال بجد، إنما هو سر تكشف عن مسماه العبارة، وإن أومأت إلى نحوه الإشارة، وذلك يرقى بالروح عن وهن الانفصال، ويتهيأ للخروج عن ظلمة الكونين إلى أنوار المعرفة.
الحادية عشر : الحكمة؛ وهي التي هبَّت بها أرياح التخصيص، واستنشقها أهل الولاية، فأوردتهم موارد التحقيق، وألبستهم خلع المعارف، وأظفرتهم بذخائر الأسرار. ومرجعها إلى إتقان العلم والعمل، الذي هو محصل مقام الإحسان، ولا تكون إلا لعارف وارثٍ. وذلك يرقى بالروح عن التصميم بالغيرة، إلى دلالة الخلق على الله عز وجل.
ابن عجيبة الحسني