قال رضي الله عنه :
لَوْ لَم ْيَكُ الْقِدَمُ وَصْفَهُ
لَزِمْ حُدُوثُهُ دَوْرٌ
تَسَلْسُلٌ حُتِمْ
لَوْ أَمْكَنَ الْفَنَاءُ لانْتَفَى
الْقِدَمْ لَوْ مَاثَلَ
الْخَلْقَ حُدُوثُهُ انْ حَتَمْ
أورد هنا براهين الصفات وصدر ببرهان القدم
الذي هو كناية عن عدم ابتداء الوجود المطلق، وأتى في كل برهان منها بقوله : لو لم
يكن كذا لكان كذا ولو كان كذا لكان كذا على اصطلاح أهل المنطق، وهذا منتسب للصبيان
المبتدئين في الإسلام، وأما العارفون بالله الراسخون في مقام العيان لا يتوقفون
على شيء من هذا لكونهم يستحونَ من الله أن يتلفظوا بمثل هذا الكلام فضلاً عن أن
يصوروا في الألوهية وجود الدور والتسلسل، بل هذا محال في أذهان العارفين ولا محل
له في عقولهم من القبول لكونهم حصلوا في ذلك اليقين، فلا يصدر عن ألسنتهم ولو على
سبيل التعليم الإتيان بالبرهان والدليل لتلبسهم بالقرب في حضرة المشاهد، إلّا أنهم
يفهمون معنى آخر من البرهان وهو لو لم يك القِدَم وصفه وعدم التحيز نعته لَزِمَ أن
يكون معه غيره، وإذا كان معه غيره لَزِمَ أن يأخد قدره في الوجود أي محلًّا لظهوره،
ويلزم التحيز بعد الإطلاق وذلك مُحال لما علمتَ من وحدانية الذات التي لا تتحيز بحيث
لا يمكنها أن تترك لغيرها أدنى فسحة في الوجود لما يقتضيه اسمه الصمد، بل إن العدم
نفسه لا مقام له ولا يمكن أن يكون لقول الناظم رضي الله عنه : لو أمكنَ الفناء لانتفى القِدَم، أي لو أمكن الفناء الذي هو العدم المحض لانتفت خصوصية القِدَم الذي
هو الوجود المحض، أي لم تبق له خصوصية القِدَم الذي هو الوجود المحض، أي لم تبق له
خصوصية حيث تلفظنا بالعدم في حضرة القدم لكون المقام ينفي كلًّا من الوجود والعدم
في تلك الحضرة الشريفة كان الله ولا عدم ولا وجود مع وجوده، والعدم المحض لو فتشته
بعد أن صَوَّرتَه لوجدتَ فيه حقيقة من حقائقه سبحانه وتعالى، إذ حقيقة الذات لا تخلو
منها حقيقة فلهذا سُمِّيَتْ حقيقة الحقائق، فكل مستحيل إلا وتحته حقيقة من الحقائق غير
متعاطية بين الخلائق، وتلك الحقيقة مأخودة من قوله تعالى : {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والأشياء كامنة في أضدادها، ولولا الأضداد
ما ظهر المضاد، ولا يفهم هذا الكلام إلا من يحقق بحقيقة الوحدانية في الذات
ومقتضاها.
وقد يرى المحجوب في معنى الوحدانية أن الله
واحد بمعنى أن ذاته ليست مركبة أو هناك ذات تشابهها، ولم يدر أن الوحدانية تأبى أن
يكون معها أدنى شيء في الوجود، وأما نفي المماثلة فمعدوم رأساً لعدم المثل، فمتى
وجد حتى يماثله، وأما قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فلعدم وجود الشيء،
ولا تحسبن هذا العالم شيئًا وإنما هو لا شيء، ولا تعتقد أنه غير أو أجنبي عن
الحضرة الإلهية وإنما هو مظهر من مظاهرها وسر من أسرارها ونور من أنوارها، قال
تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {وَكَذَٰلِكَ نُرِي
إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ
رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّى} ولم يصدر ذلك منه تشبيهًا فحاشاه من ذلك،
وقد أخبرنا الله كيف أطلعه على ملكوته، وإنما قال ذلك مبالغة في التنزيه حين كشف
له عن حقيقة الحقائق المشار إليها في الآية الكريمة { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فأخبر
بهذه الحقيقة قومه ليتقوا الله في كل شيء، وهذه غاية التقوى فاتقوا الله حق تقاته،
فلما عجزت عقولهم عن هذه الحقيقة الغامضة صارت حجة عليهم وهي المراد بقوله تعالى :
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ } وكل
ذلك لما كشف له عن ملكوت السموات والأرض فوجد حقيقة الموجد موجودة في كل موجود،
فأراد أن يخبر بمما حصل عليه فوجد القلوب مُدبرة عن التوحيد المحض الذي خصَّه الله
به، فلما رآهم على هذه الحالة قال : { يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } هذا ما فتح الله به هنا في هذا الموطن الجليل وهو
الهادي إلى سواء السبيل.