آخر الأخبار

جاري التحميل ...

  1. نريد التواصل مع الكاتب ونريد مزيد من مقالاته

    ردحذف

من أعلام الفكر الإسلامي : ابن العرِّيف

من أعلام الفكر الإسلامي : ابن العرِّيف

ﺣﻈﻴﺖ اﻟﺠﺰﻳﺮة اﻟﺨﻀﺮاء اﻟﺘﻲ ﻋُﺮﻓﺖ ﺑﻴﻦ اﻟﻌﺎﺷﻘﻴﻦ ﻟﻬﺎ ﻓﻲ اﻷزﻣﻨﺔ اﻟﻤﺘﺄﺧﺮة ﺑـ (اﻟﻔﺮدوس. اﻟﻤﻔﻘــﻮد) ﺑﺎﻫﺘﻤﺎﻣﺎت اﻟﺒﺎﺣﺜﻴﻦ ﻓــﻲ ﻣﺠﺎﻻت ﻋﺪﻳﺪة ﻣﻨﻬﺎ: اﻟﻔﻘــﻪ واﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻟﻠﻐﺔ واﻷدب،. ورﻏــﻢ أن اﻷﻧﺪﻟــﺲ ﻻ زاﻟﺖ ذكراها تلهب الباحثين، إلا أن التجربة الصوفية الأندلسية لم تحظ بما حظيت به فروع العلم والمجالات الأخرى.

لقد تبلور التصوف الأندلسي بعد استقدامه من مواطن نشأته في المشرق، لكنه اكتسى في الأندلس ببعض السمات التي ميزته عن التصوف في موطن نشأته، صحيح أنه تشابه بخصائصه، إلا أن طبيعة الأندلس فرضت له سمات متميزة، وإن بدا الصوفي الأندلسي في بعض الأحيان صورة مكررة لأخيه الصوفي المشرقي.

نعرض هنا لبعض معالم الطريق عند أحد صوفية الأندلس الكبار.

التصوف الأندلسي في المصادر التاريخية :


في (أخبار الفقهاء والمحدثين) لابن الحارث الخشني(361 ه) وهو أقدم كتب التراجم الأندلسية، نستطيع الوقوف على أول من وضع في ترجمته النسبة للتصوف، يقول في ترجمة أصبغ بن زياد (310ه) : "كان من أهل الوثائق والفقه والتصوف"[1]. فالتصوف بدأ متأخراً بعض الشيء عنه في المشرق، الذي يحدد له نيكلسون نقلًا عن ماسنيون بداية ظهور الكلمة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري (2).

بعيدًا عن هذا الرصد فإننا نجد الشخصية الأهم في بزوغ التصوف كانت شخصية محمد بن مسرة الجبلي (319ه) وهي شخصية قلقة في تاريخ التصوف، فيرى فيه كوربان صاحب أول مجتمع صوفي أندلسي (3)، ويعدُّه ابن حزم (365 ه) م مفاخر بلاده فيقول : "ومحمد بن عبد الله بن مسرة في طريقه التي سلك فيها - وإن كنَّا لا نرضى مذهبه - في جماعة يكثر تعدادهم".، لكن ابن خاقان (528ه) يترجم له قائلاً : "كان على طريقة في الزهد والعبادة سبق فيها، وانتسق في سلك محتذيها وكانت له إشارات غامضة وعبارات عن منازل الملحدين غير داحضة، ووجدت له مقالات ردية واستنباطات مردية، نسب بها إليه رهق، وظهر له فيه مزحل عن الرشد"(5).

لقد تعرض ابن مسرة بالأفكار التي مارسها سلوكًا أو دونها تأليفا للانزواء بعيدًا، بل خرجت الفتوى بحرق كتبه والتخلص منها.

القرن الخامس الهجري وميلاد ابن العريف :


أصبح التصدي لتيار ابن مسرة شائعًا بين فقهاء وقضاة الأندلس، وأصبح فكره ونظرياته الصوفية محل ريب ممن يعتنقها أو يتبناها،وظل الأمر على ذلك أكثر من قرنين، وصار التيار الصوفي خافتًا، حتى برز ابن العرِّيف ورفيقه ابن برجان في نهاية القرن الخامس وبداية السادس.

ولد ابن العريف في (ألمرية) سنة (481ه)، قال التنبكتي (1036ه) في ترجمته : "هو أحد الأولياء العلماء المحدثين القراء المجودين، جمع بين العلم، والعمل، والزهد، والورع، والإيثار. صار من أعلام الصوفية ورجال الكمال"، وقال الضبي :"فقيه زاهد إمام في الزهد، عارف محقق"، وقال الذهبي : "كان العباد يأتونه ويجتمعون لسماع كلامه في العرفان"، ووصفه أيضًا بقوله : "زاهد الأندلس، صاحب المقامات والإشارات"(6)، صحب ابن العرِّيف في طريق القوم أبا بكر بن بُريال (502ه)، الذي ألبسه خرقة الصوفية.

درس ابن العرِّيف القراءات واهتم بها اهتمامًا بالغًا وقد أخد عمن بقي من تلاميذ أبي عمرو الداني (7)، وكان ممن صحب العلماء ودرس على الشيوخ، فجاء كلامه موزونًا بميزان الشريعة، لا يحيد عنها ولا يخرج.

بعض خصائص الطريق عند ابن العرِّيف :


نستطيع استشفاف معالم النظرية الصوفية الراشدة عند ابن العرِّيف من خلال بعض رسائله، ومن خلال ما رسمه في رسالته الأهم (محاسن المجالس) وقد جاءت كلها على النسق المتقيد بأصول الوحي، بعيدة كل البعد عن النظريات الوافدة التي أسست للتصوف الفلسفي، الذي اعتمد الحلول والفناء والاتحاد كمقومات له، والذي برز بجلاء عند أبي القاسم ابن قسي الأندلسي (546ه) صاحب كتاب (خلع النعلين)، وتوطدت بعد ذلك عند ابن عربي الحاتمي (638ه).

يعرض ابن العريف لأصول الاستدلال فيقول : "الأصول ستة : كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما ثبت عن الصالحين من أهل كل وقت، وما ثبت عن أئمة الفقهاء وأهل الاجتهاد والبصائر في الدين، وإجماع المسلمين الثابت كونه إجماعًا، والنظر الصحيح؛ وهو ما كان الحكم به مستنبطًا من هذه الأمور الستة"(8).

ثم يبين ضرورة التمسك بالوحي، وقيام العمل على تعاليم الشريعة فيقول : "من ظنَّ أنه تائب ولم يحقق ذلك بالعلم والعمل فهو مغتر، ومن عمل عملًا من بكاء أو قيام أو صيام أو غير ذلك على غير مقصود صحيح يطالب نفسه كل يوم بحصوله فهو مغترٌّ".

وتحدَّث عن الممارسات التي يجب على العبد السير في الطريق من خلالها فيقول : "إن العبد لا بد له في الجملة من أربعة : العلم بذات الله أولاً. ثم العمل المتقن، والإخلاص، والخوف".(10).

أما المريد الناشئ في طريق القوم فيجب عليه وفق ما يرى ابن العرِّيف ثلاثة أشياء "معرفة الإنصاف ولزوم الأوصاف، تمييز وجه السؤال وتجريده من عموم الإشكالات، تحقيق الفرق بين الخلاف والاختلاف"(11).

وقد تعرض في رسالته المشار لها سابقًا لمنازل السير في طريق التصوف، وجاء كلامه متابعًا لإمام الطريق الهروي صاحب (منازل السائرين)، وربما اجترَّ نص عبارته بلا زيادة، قال في منزلة المحبة : "وأما المحبة فهي أول أودية الفناء والعقبة التي يتحدر منها على منازل المحو، وَهى آخرُ مَنزلة تلتقى فيها مُقَدَمة العَامَةِ وَساقةً الخاصّة وهي على الإجمال وجود تعظيم في القلب يمنع الشخص من الانقياد لغير محبوبه"(12).

ويجعل (الحزن، والشكر، والإرادة، والصبر، والخوف، والشوق) من منازل العوام، والعوام المقصود بهم هم عموم السالكين في الطريق لا أهل الخصوص منهم (13).

ويتحدث ابن العرِّيف عن التحقيق في طريق الإرادة ليجعل من صاحبه كالشعلى التي تضيء في المجتمع من حوله، فيبين أن المقصود بالتحقيق هو : "أن يأخذ المريد نفسه بأفضل ما قدر عليه وأشدّ، لقوله تعالى : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}(الزمر:18) ويدع كل حق له عند غيره لقوله تعالى : {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(الجاثية:14) فندب إلى ترك الحقوق للكفار، فتركها للمسلم أولى، ويؤدي إلى كل ذي حق حقه، من مسلم أو ذمي، لقوله سبحانه : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}(النساء:58) ولا يظن بخلق من خلق الله إلا حسنا من التأويل، لقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}(البقرة:83) والقول يشتمل على قول اللسان وقول الضمير، وبعض العلماء يقولون في الآية إنها محكمة، وعلى عمومها، حتى في اليهود والنصارى، لقوله سبحانه للناس.

قوله سبحانه : {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} هو الأس في الطريق الأعظم في طريق الإرادة ويصلح عند كل عمل، فتأمل فيه وعنده، ولا عون إلا من الله"(14).

ويبين الأصول اللازمة للمريد في طريق السلوك فيقول : 


الأصول أربعة : "عيش وعقل وعلم وعبودية، فالعيش لمعاملة النفس، والعقل لمعاملة الخلق، والعلم لمرافقة القلب، والعبودية لمرافقة الرب"(15).
والإيمان الراسخ هو الإيمان الذي مرت عليه الليالي، ودرجت وراءه الأيام، وشجرته تسقى بماء الطاعة، وتلقح بلقاح الأدب، وتنظف مسالكه إلى القلب من أضداده وأسبابها، وهو الإيمان المشار إليه بقوله سبحانه : {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ}الحجرات:7)(16).

وأخيرا ينصح المريد بالصبر في طريق الطاعة والسلوك قائلا : "فلا بد من الهم والغم لكل مؤمن وكافر، ومتق وفاجر، ومطيع وعاص، وقريب وقاص، فإن الدنيا دار أنكاد، ومبنية على صلاح وفساد، فلا تحسب أيضا كل مكروه دليلًا على الإيمان، ولكن التفت إلى الغاية والطريق فإنها علامة الخذلان والتوفيق"(17).

أخيرًا : لقد مثَّلت التجربة الصوفية عند ابن العرِّيف واحدة من التجارب المتقيدة بقيم الوحي، البعيدة عن النظريات والفلسفات التي حولت مسار التصوف عند الصوفية الفلاسفة والإشراقيين، ولقد كانت العلوم التي حصّلها ابن العرِّيف كالقراءات والفقه والحديث، وصحبته لرجال الطريق السائرين على طريق الجادة هي التي جعلته يترسم الطريق الصوفي تنظيرًا وتطبيقًا على طريق المحققين من الصوفية، وإذا كان د. حسن الشافعي ينقل عن التفتزاني : "أن وحدة الوجود مذهب أندلسي انتقل إلى المشرق عن طريق ابن عربي وابن سبعين، اللذين تأثرا ببقايا ما عند أتباع ابن مسرة الجبلي"(18). فإن ابن العرِّيف لم يكن ممن تأثر من قريب أو بعيد بمذهب ابن مسرة رغم توحد الموطن، بل ظل على طريقة ألصق بطريقة الفقهاء، وأشبه في نظري بطريقة أبي حامد والهروي من قبله.

ولقد ركب المستشرق آثين بلاثيوس شططًا حين رأى أن فكر ابن مسرة ظل متوارثًا في (ألمرية) بلدة ابن العريف حتى عصره (19)، لكن سياق كلامه كان مترجلًا لا دليل عليه سوى ادعاءً يقال، بل إنه أشار إلى أن فقهاء (ألمرية) كانوا أول من نادى بحرق كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله، فغذا كان فقهاء (ألمرية) لم تحملوا مؤلفات الغزالي التي لا يشوبها ذرة مما شاب كلام ابن مسرة، فكيف كان بينهم من توارث فكر ابن مسرة ذاته، كما أن أفكار ابن عربي لم يشر أحد غلى أنه أحد منها شيئا مما عند ابن العرِّيف، بل إن ابن عربي كان تأثره أكثر بأبي القاسم بن قسي الذي راسله ابن العريف ناصحًا له ومحذرا في بعض رسائله، وقد شرح ابن عربي كتاب ابن قسي (خلع النعلين) وكان هائمًا بتصوفه.

أمَّا رسالة ابن العريف فقد شرحها ابن القيم المعروف عنه التقيد بطريقة شيخه ابن تيمية، وهي طريقة في عمومها ناقدة لبعض اتجاهات التصوف الغالية، ذامة لرجال التصوف الحلولي والاتحادي، وقال في بداية الشرح "نذكر كلامه في ذلك وما يفتح الله به، تتميمًا لفائدة ورجاء للمنفعة، وأن يمن الله العزيز الوهاب بفضله ورحمته، ويرقِّي عبده من العلم إلى الحال، ومن الوصف إلى الاتصاف"(20).

وقد انتقد فيها بعض المواضع، إلا أن إعجابه بما تحمله كان داعيًا له أن ينهض لتناولها بالشرح.

د. محمد أحمد عزب
أستاذ العقيدة جامعة المدينة

**  **  **
(1) انظر : أخبار الفقهاء والمحدثين، لابن رسالة مخطوطة بكلية الآداب جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، إعداد خالط السقاط :88/1.
(2) انظر : الصوفية في الإسلام، نيكلسون، ترجمة نور الدين شريبة، ط الخانجي، ط2002، ص 11.
(3) انظر : تاريخ الفلسفة الإسلامية، لهنري كوربان، ترجمة نصير مروة، وزميله، راجعه الإمام موسى الصدر، ط عويدات للنشر والطباعة، بيروت، ط 1998/2، ص 334.
(4) انظر : رسائل ابن حزم، تحقيق : إحسان عباس، ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت - لبنان الطبعة ط 2، 1987: 188/2.
(5) أي بعد. انظر : لسان العرب، مادة (رُحل). وانظر : مطمح الأنفس، للفتح بن خاقان، ص 138.
(6) انظر : (كفاية المحتاج) لأحمد بابا التنبكتي، تحقيق : محمد مطيع ط- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، ط الأولى، 2000م : 71/1، وبغية الملتمس، للضبي، ص : 166، وسير أعلام النبلاء : 108/39.
(7) انظر : التشوف لى رجال التصوفن تحقيق أحمد توفيق، منشورات كلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط، ط 1404، ص 118.
(8) انظر : مفتاح السعادة وتحقيق طريق السعادة، لابن العريف، جمعها أبو بكر بن عتيق، تحقيق د. عصمت دندش، 1993 ص 83.
(9) انظر : السابق، ص84.
(10) انظر : السابق.
(11) انظر: السابق ص89.
(12) انظر : رسالة محاسن المجالس، تحقيق : آثين بلاثيوس،ص 90.
(13) انظر : طريق الهجرتين وباب السعادتين، بتحقيق : عمر بن محدود، ط دار ابن القيم، الدمام، ط 1994، ص : 340.
(14) مفتاح العادة وتحقيق طريق السعادة، لابن العريف ص 8.
(15) السابق، ص 105
(16) السابق، 86
(17) السابق ، 89
(18) انظر : في التصوف الإسلامي، د.حسن الشافعي، د. أبو اليزيد العجمي. ط دار الثقافة العربية، القاهرة، 1417، ص 152.
(19) انظر : دراسات أندلسية، د. الطاهر مكي، ط. دار المعارف، ط 2، 1983، ص346.
(20) انظر : طريق الهجرتين (ص:440)

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية