ثم فائدة صحبه العارفين هو حصول اليقين كما أشار بقوله :
(لَوْ أَشْرَقَ لَكَ نُورُ اليَقِينِ لَرَأْيْتَ الآخِرَةَ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَرْحَلَ إِلَيْهَا وَلَرَأَيْتَ مَحَاسِنَ الدُّنْيَا وقَدْ ظَهَرَتْ كِسْفَةُ الفَنَاءِ عَلَيْهَا) .
قلت : اليقين هو العلم الذي لايزاحمه وهم ولايخالطه ريب ولايصحبه اضطراب مشتق من يقن الماء اذا حبس ولم يجر شبه به العلم اذا صحبته الطمأنينة ولم يبق للقلب فيه تحرك ولا اضطراب ، وإشراق نوره هو ظهور أثره على الجوارح فيظهر فيه الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ويظهر منه الانحياش الى الله والاشتياق الى حضرة جماله والسكون والخضوع تحت قهر جلاله والمسارعة الى ابتغاء مرضاته والمبادرة الى مظان محابه ولهج اللسان بذكره وشغل القلب بالفكرة في عظمته وهيمان الروح في حضرة قربه وسكرها من شراب حبه واغتمارها بشهود قربه ، فهذه علامة اشراق نور اليقين في القلب، ومن علامته أيضا أن يصير الآجل عاجلا والبعيد حاصلا والغيب شهادة "إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ" ولنا في هذا المعنى :
فلا ترضى بغير الله حب ا وكن أبدا بعشق واشتياق
ترى الامر المغيب ذا عيان وتحظى بالوصال وبالتلاق
كنت ذيلت بهما قول القائل :
فلا دهش وحام الحي حي ولاعطش وساقي القوم باق
فما الدنيا بباقية لحي وماحي على الدنيا بباق
فلو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة آتية حاضرة لديك أقرب إليك من أن ترحل اليها اذ هي الراحلة إليك والمدركة لك، ولرأيت محاسن الدنيا الوهمية الفانية قد ظهرت كسفة الفناء عليها، أي : قد انكسف نور وجودها بظهور ظلمة فنائها فصار ماكان ظاهرا باطنا وماكان باطنا صار ظاهرا وماكان كثيفا صار لطيفا وماكان لطيفا صار كثيفا وماكان غيبا صار شهادة وماكان شهادة صار غيبا، وإنما بعد ذلك عن الخلق ضعف إيمانهم وقلة نور إيقانهم ولو أشرق نور اليقين في قلوبهم لرأوا الدنيا مكسوفة أنوارها بادية عوارها، كما رآها حارثة رضي الله عنه حين أخبر عن حقيقة إيمانه ، فقد روى عن أنس رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شاب من الانصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كيف أصبحت ياحارثة ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا . فقال له : انظر ماتقول فإن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : يارسول الله عزفت نفسي عن الدنيا (أي أدبرت وهربت ) فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري فكأني بعرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها . فقال له : أبصرت فالزم عبد نور الله الايمان في قلبه . قال يارسول الله ادع لي بالشهادة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم بدر شهيدا ، فجاءت أمه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله قد علمت منزلة حارثة مني فان يكن في الجنة أصبر وإن لم يكن في الجنة ترى ماأصنع ..، فقال صلى الله عليه وسلم : أو هبلت ؟ أجنة هي ؟ إنها جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الاعلى ، فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ ياحارثة. وكما رآها معاذ بن جبل رضي الله عنه حين دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له : كيف اصبحت يامعاذ؟ قال أصبحت مؤمنا فقال : إن لكل قول مصداقا ولكل حق حقيقة فما مصداق ماتقول ؟ فقال : يارسول الله ما أصبحت صباحا قط إلا ظننت لا أمسي وما أمسيت قط إلا وظننت لا أصبح ولا خطوت خطوة قط إلا ظننت أني لا أتبعها بأخرى وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها معها نبيها وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله وكأني أنظر الى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة . فقال صلى الله عليه وسلم : عرفت فالزم .
فهذان الرجلان الانصاريان أشرق نور الايقان في قلوبهما وشرح الله به صدورهما فرأوا ماكان آجلا عاجلا وماكان آتيا واصلا ، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح ، قيل يارسول الله هل لذلك علامة يعرف بها ؟ قال : نعم التجافي عن دار الغرور والانابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله" أو كما قال عليه السلام ، وقال أحمد بن عاصم الانطاكي رحمه الله : اليقين نور يجعله الله في قلب العبد حتى يشاهد به أمور آخرته ويخرق به كل حجاب بينه وبينها حتى يطالع الآخرة كالمشاهد لها . قلت فإذا تكامل نور الايقان غطى وجود الاكوان ووقع العيان على فقد الاعيان ولم يبق إلا نور الملك الديان . كما أشار إلى ذلك بقوله :
(مَا حَجَبَكَ عَنِ اللهِ وُجُودُ مَوْجُودٍ مَعَهُ ، وَلَكِنْ حَجَبَكَ عَنْهُ تَوَهُّمُ مَوْجُودٍ مَعَهُ)
قلت : الحق تعالى ظاهر ونوره للبصائر باهر، إنما حجبه مقتضى اسمه الحكيم واسمه القاهر، فما حجبك عن شهود الحق وجود شئ معه، أإله مع الله تعالى الله عما يشركون، ولكن حجبك عن شهوده توهُّم وجود موجود معه ولا شئ معه، وكما كان ولا شيء بقي ولا شئ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فالفعل لا يصدر من غير صفة والصفة لا تفارق الموصوف، فالفعل متحد والفاعل واحد، والصفة متحدة والمتصف بها واحد، وللششتري رضي الله عنه :
صفاتي لا تخفي لمن نَظَر وذاتي معلومةٌ تلك الصور
فافنَ عن الاحساسِ ترى عبر
وسبب توهُّم الغيرية عدم الفكرة، وسبب عدم الفكرة حب العاجلة، فهي الشاغلة للقلوب عن السير إلى حضرة علاَّم الغيوب، وحكمة حب الدنيا ظهور القهرية، فمن قهاريته تعالى أن احتجب بلا حجاب، وغطى نور شمسه بالأسحار، وأيضاً قوالب العبودية حجبت مظاهر أنوار الربوبية، ووجود الحكمة ستر ظهور القدرة.
وقال بعض العارفين : "الحق تعالى مُنزَّهٌ عن الأين والجهة والكيف والمادة والصورة، ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان ولا كم ولا كيف ولا جسم ولا جوهر ولا عرض، لأنه للطفه سار في كل شيء، ولنوريته ظاهر في كل شيء، ولا طلاقه واحاطته متكيِّف بكل كيف غير متقيِّد بذلك، ومن لم يذق هذا ولم يشهده فهو أعمى البصيرة محروم عن مشاهدة الحق". ومن كلام ابن وفا رضي الله عنه :
هو الحقُّ المحيطُ بكل شئ ... هو الرحمنُ ذو العرشِ المجيد
هو النورُ المبينُ بغير شك ... هو الربُّ المُحَجَّبُ في العبيدِ
هو المشهودُ في الإشهاد يَبدو ... فَيُخفيه الشهودُ عن الشهيدِ
هو العينُ العيانُ لكل غيب .... هو المقصودُ من بيت القصيد
جميع العالمينَ له ظلالٌ ... سجودٌ في القريبِ وفي البعيدِ
وهذا القدرُ في التحقيق كافٍ ... فكفَّ النفس عن طلبِ المزيد
وقال الشيخ القطب مولاي عبد السلام بن مشيش مخاطبا لوارثه الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنهما في وصية له وقد تقدمت : "حدد بصر الإيمان تجد الله تعالى في كل شيء، وعند كل شئ، وقبل كل شئ، وبعد كل شئ، وفوق كل شئ، وتحت كل شيء، وقريبا من كل شئ، ومحيطا بكل شئ، بقرب هو وصفه، وبحيطة هي نعته، وعد عن الظرفية والحدود وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب في المسافات وعن الدور بالمخلوقات، وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو كان الله ولا شئ معه وهو الآن على ما عليه كان".
قال بعضهم : ونبَّهَ بقوله : "وعد الخ" ،على أن ما جرى في كلامه من الظروف ليست بزمانية ولا مكانية لأنها من جملة الأكوان، وإنما هي أمور ذوقية فاعتقد كمال التنزيه وبطلان التشبيه وتمسك بقوله عز وجل : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وسَلِّم ذلك لأهله فإنهم على بصيرة فيما رمزوا إليه مما ذاقوه ووجدوه، بل هو من محض الإيمان وخالص العرفان، وهو حقيقة التوحيد وصفو الإيمان، وأما قوله : "وهو الآن على ما عليه كان" وإن لم يرد في الحديث الصحيح فهو في نفسه صحيح إذ لا وجود في الحقيقة للأشياء معه تعالى، وإنما هي كالخيال ووجود الظلال فلا تنسخ أحديته ولا ترفع فردانيته. وبالجملة فمن غلب عليه شهود الأحدية وكوشف بسر الوحدانية واستغرق في الحقيقة العيانية انقطع عن الشهور بنفسه وغاب عن السوى بالكلية، وأن رد إلى الشعور به رآه قائما به وظارها فيه وبه حكما من أحكامه".
وقال في لطائف المنن : "وأشبه شئ بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجود الظلال والظل لا موجود باعتبار جميع مراتب الوجود، ولا معدوم باعتبار جميع مراتب العدم، وإذا أثبتت ظلية للآثار لم تنسخ أحدية المؤثر لأن الشئ إنما يشفع بمثله ويضم إلى شكله، كذلك أيضا من شهد ظلية الآثار لم تعقه عن الله فإن ظلال الأشجار في الأنهار لا تعوق السفن عن التسيار. ومن ها هنا تبين لك أن الحجاب ليس أمرا وجوديا بينك وبين الله تعالى، ولو كان بينك وبينه حجاب وجودي للزم أن يكون أقرب إليك منه ولا شئ أقرب من الله، فرجعت حقيقة الحجاب إلى توهُّم الحجاب".