ونقل جلال الدين السيوطي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: واعلم أنه وقع في عبارة بعض المحققين لفظ الاتحاد، إِشارة منهم إِلى حقيقة التوحيد، فإِن الاتحاد عندهم هو المبالغة في التوحيد. والتوحيد معرفة الواحد والأحد، فاشتبه ذلك على من لا يفهم إِشاراتهِم، فحملوه على غير محمله؛ فغلطوا وهلكوا بذلك...إِلى أن قال: فِإذن أصل الاتحاد باطل محال، مردود شرعاً وعقلاً وعرفاً بِإجماع الأنبياء ومشايخ الصوفية وسائر العلماء والمسلمين، وليس هذا مذهب الصوفية، وإِنما قاله طائفة غلاة لقلة علمهم وسوء حظهم من الله، فشابهوا بهذا القوِل النصارى الذين قالوا في عيسى: اتحد ناسوتُهُ بلاهوتِه. وأمَّا مَنْ بالعناية، فِإنّهم لم يعتقدوا اتحاداً ولا حلولاً، وإِن وقع منهم لفظ الاتحاد فِإنما يريدون به محو أنفسهم، وإِثبات الحق سبحانه. وقال الشيخ ابن القيم في كتابه مدارج السالكين شرح منازل السائرين: الدرجة الثالثة من درجات الفناء: فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين، وهو الفناء عن إِرادة السوى، شائماً برق الفناِء عن إِرادة ما سواه، سالكاً سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه، فانياً بمراد محبوبه منه، عن مراده هو من محبوبه، فضلً عن إِرادة غيره، قد اتَّحدَ مراده بمُراد محبوبه، أعني المراد الديني الأمري، لا المراد الكوني القدري، فصار المرادان واحداً. ثم قال: وليس في العقل اتحاد صحيح إِلا هذا، والاتحاد في العلم والخبر. فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحداً مع تباين الإرادتين والعلمين والخبرين، فغاية المحبة اتحاد مراد المحب بمُراد المحبوب، وفناء إِرادة المحب في مراد المحبوب. فهذا الاتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم؛ قد فنوْا بعبادة محبوبهم، عن عبادة ما سواه، وبحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة به والطلب منه عن حب ما سواه. ومَنْ تحقَّقَ بهذا الفناء لا يحب إِلا في الله، ولا يبغض إِلا فيه، ولا يوالي إِلَّا فيه، ولا يعادي إِلا فيه، ولا يعطي إِلا لله، ولا يمنع إِلا لله، ولا يرجو إِلا إِياه، ولا يستعي إِلّا به، فيكون دينه كله ظاهراً وباطناً لله، ويكون الله ورسولهُ أحب إِليه مما سواهما، فلا يوادُّ من حادَّ الله ورسوله ولوكان أقرب الخلق إِليه، وحقيقة ذلك فناؤه عن هوى نفسه، وحظوظها بمراضيه تعالى وحقوقه، والجامع لهذا كله تحقيق شهادة أن لا إِله إِلا الله علماً ومعرفة وعملًا وحالاً وقصداً، وحقيقة هذا النفي والإثبات الذي تضمَّنَتهُ هذه الشهادة هو الفناء والبقاء، فيفنى عن تأله ما سواه علماً وإِقراراً وتعبداً، ويبقى بتألهه وحده، فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحيد، الذي اتفقت عليه المرسلون صلوات الله عليهم، وأُنزلت به الكتب، وخلقت لأجله الخليقة، وشرعت له الشرائع، وقامت عليه سوق الجنة، وأسس عليه الخْلق والأمر..
إِلى أن قال: وهذا الموضع مما غلط فيه كثير من أصحاب الإرادة. والمعصوم من عصمه الله، وبالله المستعان والتوفيق والعصمة.