آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الخطاب الرّوحي في الأدب الصوفي -12

إن لأهل التصوف في خطاباتهم مصطلحات امتازوا بها عن غيرهم نذكر من بينها مصطلح الأنس الذي عرفه الجنيد بأنه هو ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة، والوجد والتواجد، ومصطلحات التجريد، والجذب إلخ. يبتغي للسالكين عموما بلوغ مقامات من خلال العمل الروحاني الذي يؤهلهم إلى الكشف، والإلهام أو العلم اللدني.

هذه الحالات يرقى إليها السالك بفضل النهج العملي المتبع في طرق مختلفة من مدارس المتصوفة، كذكر الله الكثير سرا وجهرا باللسان والقلب، ومصاحبة الأخيار تارة، وانقطاع عن البشر لفترة محدودة تارة أخرى وهو ما يعرف بالخلوة كلها أعمال أفرد لها أهل هذا الفن كتب لشرح هذه الكلمات وطريقة بلوغ هذه مقامات.

كما أن كبار أهل هذا الفن أفردوا كتبا عبروا فيها عن الأحوال والمقامات الروحية بكلمات هي بمثابة الرمز الذي لا يفهمه إلا من كان له حظ في هذه الطريق أو ذو سليم ناله بالتخلي ثم التحلي ليبلغ مقام التجلي.

إن تعامل السالكين مع الموجودات والتأمل فيها، جعلهم يعبروا عن أحاسيسهم وأذواقهم،
وكشوفاتهم التي تجلت لهم من طول التفكر وشوق التعلق بألفاظ تحتمل دلالات عدة، باطنها قد لا يتناسب مع ظاهرها، وانتشر بذلك استعمال اللفظ المرموز الذي يبلغ فؤاد من ذاق .

وإن استعمال الرمز في التعبير عن المفاهيم العميقة ليس حكرا على الخاصة من المتصوفة، إنما كان سائدا أيضا بين الحكماء القدامى، خاصة كتب الكمياء التي تتحدث عن الإكسير، وسر الحياة، وأسرار الطبيعة إلى غير ذلك، وامتد بعد ذلك إلى العلماء المسلمين أمثال جابر بن حيان الصوفي، وأبو بكر الرازي وذو النون المصري إلخ، وقد بين ذلك صاحب رتبة الحكيم في مقدمة كتابه قائلا : وإن كنا قد وضعنا هذه الكتب لإظهار الذي عندنا من علم الفلسفة، فلا يمكننا وضعها إلا على رسوم الأوائل الذين هم من أهل هذا العلم من الرمز لتلك العلوم والإخفاء لدقائق الحكمة لما في ذلك من منفعة للعالم، لئن لا يستوي العالم والجاهل. وقال أيضا: فالنقل أن كل علم إنما وضع مرموزا أو غير مرموز وسيأتي ذلك في موضعه في هذا الكتاب، وإن الرمز إنما هو مثال يضرب في ذلك العلم ليخفى عن الجاهل البليد، ويظهر للعالم التحرير.
إنه الرَّمز الصوفي الذي يتحرك بمعية تلكم الكينونة الوجودية القائمة في عالم الخلق من جهة، وعالم الوجود الإنساني من جهة أخرى. وهنا نطرح تساؤلا وجيها وهو: كيف كانت منزلة الرمز عند المتصوفة؟ هل هناك علائق تلازمية ربطت الرَّمز الصوفي بعالم الكون المطلق من جهة السر الرباني، وعالم الذات الإنسانيَّة من جهة الروح؟ وهل هنام بذور سارت على لسان حال النبي عليه الصلاة والسلام ولسان صحبه عليهم الرضوان فيما له علقة بتلكم النفحات الربانية التي كتب لها السر الوجودي الكوني فيما بعد أن تدعى بالرمز الزّهدي أو الصوفي؟

لمّا كان التصوف بمجالاته الداخلية والخارجية يسير وفق شمولية مطلقة لازمت عالم الروح من بابه الواسع، اقتضى من هذا التصور المطلق القائم في التصوف أن يجعل الوجود الإنساني في ديمومة مستمرة ومتواصلة في طرح ذلكم التساؤل القائم بين عالم الحق وعالم الوجود، وهو التساؤل الذي جعل الوجود الإنساني يحقق نوعا من التلازم غير المقيد بين عالم الحقيقة المطلقة وواقع الرمز الذي يتعامل معه هذا الوجود الإنساني قصد الوصول إلى سر التحلي مع التخلي ،والذي من شأنه أن يعطي لهذا الوجود ذلكم السمو إلى المعنى الروحي لعالم الوجود والكينونة معا؛ فيستطيع هذا الإنسان من منظور التصهور الصوفي أن يعيش في رحاب الحق ويعيش الحق في رحابه؛ فيكون حينها الرّمز من منظور هذا الإنسان الصوفي ليس كباقي التصورات التي يتعامل معها الخلق في عالم المعرفة.

من هذا المنطلق كان لزاًما على رجال المتصوفة في جل أبحاثهم وقضاياهم يعطون العناية الكبرى للذات الإنسانية المتصوفة، وذلك «... من أجل تفتحها الروحي وارتقائها النفسي والاجتماعي، وكمالها الوجودي والمعرفي والأخلاقي، وذلك من منطلق الخميرة الروحية الكامنة فيها، والمعززة بنوافذ الإنسان الخاصة؛كالقلب، والوجدان، والخيال، والذوق ؛ هذه النوافذ من شأنها أن تسمو بالإنسان إلى المعنى الروحي للوجود، لئلا يخلد فقط إلى المعنى الذي يؤسس له العقل والحواس الظاهرة، ولعل أكثر تآليف الصوفية إنما تدور على سنن قواعد السلوك والمعاملات، وبيان أحوال ومقامات السفر، من البدايات إلى النهايات، غايتهم من ذلك تمكين المريد الصادق -كما نعته زروق في عدته- من النمو والتطور الروحي لتحقيق نموذج الكمال الإنساني أخلقا وسلوكا ومعرفة».

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية