لا ضير من
الإشارة إلى مشهد واحد من هذه المشاهد التي يحتل فيها الرّمز الصوفي من جهة ذلكم
النّور الرباني الإيماني الذي يقدفه الله تعالى وتقدس في باطن عبده؛ فيرى نورا من
نوره. هذا المشهد هو قصد ذلكم الصاحبي حارثة عليه الرضوان مع نبي الرحمة عليه
الصلاة والسلم في شأن معرفة الإيمان معرفة تتماشى مع باطن عالم الحقيقة.
رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ ، ،أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ : «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ ؟ قَالَ : أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا ، فَقَالَ : انْظُرْ مَا تَقُولُ ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً ، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ ؟ فَقَالَ : قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا ، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي ، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا . فَقَالَ : يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ . ثَلاثًا .»(1).
لا أريد أن
أشرح أو أعقب على هذا الحديث النبوي الصحيح حتى لا يطغى على أسلوبي نوعا من السياق
الديني الوعظي الذي ليس له شأن في مجال الدراسات العلمية الموضوعية، ولكن حسبي أن
أبين ما احتواه المشهد من بعد صوفي روحاني رباني مع إشارة قد أشار إليها في الحكم
العطائية، حي راح الزاهد الرباني السكندري يشير إلى المعرفة الربانية الإيمانية
التي يهبها الخالق تعالى وتقدس لعبده وهو يقارن بينها وبين ما يقدمه العبد من
الخيرات وغيرها، إذ هناك بعد المشرقين بين المورد للنعم والمهدي لله تعالى من فعل
التقرب.
من هذا المنطلق
يمكن القول إن منطق الرمز من منظور التصور الصوفي هو اللامنطق، هو في الأصل حديث
عن تلكم الروح التي لا تستطيع أن تعيش بمعزل عن الروح؛ فالروح للروح، والرمز
للرمز، وهي حقيقة تلازمية تعالقية لا يستطيع الخطاب ولا النص أن يحل شفرتها، بل
اللغة هي المنفذ الوحيد التي تستطيع أن تعقد علاقة من نوع خاص مع هذا الإطار
الروحي الباطني الذي يتماشى مع طبيعة الرمز الصوفي، الشيء الذي جعل من الوجود
الإنساني في تعامله مع لغة الرمز الصوفي أن يتجاوز لغة الخلق السارية مع الضوابط
والقوانين والمقاييس، ليصل إلى ذلكم الملكوت الرباني أين يجعل من الرمز الصوفي
يحقق نوعا من الانسجام مع الحقيقة المطلقة التي أرادها الصوفي يوم أن عرف الحق من
أجل الحق ليس غير.
على هذا
المقصد، وبناء على هذا التصور الموجز في شأن واقع الرمز من منظور الفكر الصوفي،
كان للخطاب الصوفي رمز ومقامات أحوال لا تسعها العبارات والدلالات بألفاظ يستحسنها
السالكين من أصحاب الذوق. ولما استحال وصف ذوات المحاور الثلث الله والكون
والإنسان لزم الكلام على متعلقاتها، الهتي ترمي إلى حقيقة وجودها. فقد قسم بن
العربي المراتب الوجودية إلى مجموعات وتقسيمات بحسب الاعتبارات التي تستند إليها.
ففي التقسيم الأول نجده يضع أربع مراتب من الوجود، وهذا التقسيم من حيث المستوى
الذي ينظر إليه من حيث انعكاس الشيء في الوجود لا من حيث موقعه في المرتبة
الوجودية التي هو فيها، لنقل الوجود التمثيلي كما نراه نحن.(3)
فبذلك فهو يرمز
إلى أن المرتبة الوجودية الأولى هي وجود الشيء في عينه بمعنى كونه قائما وملموسا
في ذاته وماهيته.(4)
والمرتبة
الثانية حسب بن العربي هي الوجود في العلم، وهذه المرتبة تنقسم إلى
قسمين بحسب العالم بالشيء، وذلك أنه إذا تعلق بعلم الله سبحانه، فهذه المرتبة
تسبق الوجود العيني.
وأما إن تعلق
الشي بعلم الإنسان فإن الشيء قد لا يوجد في المرتبة الوجودية لعلم الإنسان (أي
يجهله) مع أنه موجود وجود عيني، ووجوده أيضا في المراتب الأخرى الباقية.
في حين أن
المرتبة الثالثة هي وجود الشيء فيه الألفاظ أي تقيده بكلمة مصطلحة على ذاته
لتميزه عن غيره. والمرتبة الرابعة هي وجوده في الرقوم، من المحتمل
أنه يقصد انطباع صورة الشيء في عقل ومخيلة الإنسان.
أما التقسيم
الثاني الذي يعطيه بن العربي للموجودات فهي باعتبار اتصاف وليس وصف الأشياء
بصفة الوجود، أو بأسلوب آخر،كيف تمَّ للشيء اكتساب صفة الوجود،وبالتالي ما
هي الطريق والجهة التي منها نستطيع وصفه بالوجود، أو بالأحرى مرتبة الوجود.
هذا فضل عن الخوض في تقسيماته للوجود المطلق والوجود المقيد.(5)
كما أن فكرة
الخيال الخلّاق التي استقطبت الدارسين المستشرقين لها مفهوم وسيط بين سائر
الديانات،(6)كما يرى بن العربي أن العالم كله وبأسره على صورة الإنسان (7)، وهذا
باعتبار أن الإنسان خليفة الله في أرضه ومنها خلق صورته، ولكن الله اختصه بنفخ
الروح فيه، ومن هنا يستطيع السمو إلى الوجود المطلق.(8)
وإ ن رموز بن
العربي عن فهم كنه الموجودات لم يتوقَّف عند رمزه للأشياء كالخمرة، بل تعدى إلى
رمز حروف اسم الجلالة كما أوضح الباحث ساعد خميس في رسالته عن الرمزية والتأويل في
فلسفته.
** ** **
1-رواه
الطبراني في المعجم الكبير.
2- ابن عطاء السكندري: إيقاظ الهمم في شرح الحكم،
3- أنظر محيي الدين بن العربي: إنشاء الدوائر ، دط، دار حوران للطباعة و النشر ، دمشق : .2001ص 141
4- المصدر نفسه.
5- إنشاء الدوائر، المصدر السابق ص .144
6- هنري كوربي هنري كوربان: الخيال الخل في تصوف بن عربي، ترجمة فريد الزاهي، منشورات مرسم، ،2006ط ،1ص 157-158
7- إنشاء الدوائر، المصدر السابق ص .144
8- المصدر نفسه ص 148
2- ابن عطاء السكندري: إيقاظ الهمم في شرح الحكم،
3- أنظر محيي الدين بن العربي: إنشاء الدوائر ، دط، دار حوران للطباعة و النشر ، دمشق : .2001ص 141
4- المصدر نفسه.
5- إنشاء الدوائر، المصدر السابق ص .144
6- هنري كوربي هنري كوربان: الخيال الخل في تصوف بن عربي، ترجمة فريد الزاهي، منشورات مرسم، ،2006ط ،1ص 157-158
7- إنشاء الدوائر، المصدر السابق ص .144
8- المصدر نفسه ص 148