ارتبط مفهوم الحب الإلهي في تاريخ الفكر العربي الإسلامي بالصوفيّة ، والواقع أن مفهوم الحب الإلهي لم يكن إبداعاً صوفيّاً من حيث المبدأ ، فقد ورد مفهوم الحب الإلهي أول ماورد في القرآن الكريم ، حيث خاطب الله عباده المخلصين بقوله أنه : "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" (1) ، وقد ورد العديد من الآيات في القرآن الكريم تؤكّد حب الله للمؤمنين بحيث يشمل هذا الحب جميع مجالات الحياة التي يحياها المؤمن ، وقال تعالى : " وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ " (2) ، وقوله : " وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " (3) وقوله تعالى : " فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ " (4) . وهذا بعض مما ورد في القرآن الكريم والذي يبيّن أن الله تعالى هو الّذي بدأ بمخاطبة المسلمين ليبيّن لهم طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين الله وعباده ، وهي علاقة تقوم على مبدأ الحب الّذي يمنحه الله لعباده ، إذا كانوا من الصّابرين ومن المحسنين ومن المتقين .
كانت بداية الحب الإهي ، من الله تعالى للإنسان ، ولكن هل يمكن أن تكون هذه العلاقة متبادلة ، أي أن يحب الإنسان الله كما يحب الله الإنسان ؟ لانستطيع القول أن طبيعة هذا الحب يحمل في جانبيه تكافؤاً من نوع ما ، فإن حب الله للإنسان ليس كحب الإنسان لله ، فهناك دائماً الجانب الأقوى في هذا الحب وهو الله تعالى ، وهناك الجانب الأضعف وهو الإنسان ، ولايمكن تحت أي ظرف عقد مقارنة بين هذين الحبيّن ، فالله هو الخالق وهو المنعم بيده القوّة والملك ، وقد ورد في القرآن الكريم : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " (5) فقد نزّه الله نفسه في هذه الآية الكريمة أن يوصف بما يصف الناس به بعضهم بعضا ، وما يحيط بهم في هذا الكون .
ومايمكن أن ينطبق على أنماط السلوك البشري ضمن الحدود البشريّة لايمكن أن ينطبق على الله تعالى ، لأنّه أكبر من أن يوصف بصفات وضعها الناس للتفاهم في ما بينهم ، وبالتالي فإن الحب من جانب الله للبشر ليس هو نفسه حب الإنسان لله ، وإن اتفقا بالمعنى إلاّ أن الطريقة تختلف ، وهذا مايشير إليه القشيري بقوله ( وليست محبة العبد له سبحانه متضمّنة ميلاً ، كيف وحقيقة الصمدية مقدّسة عن اللحوق والدرك والإحاطة " (6) فالإنسان ليس بيده سوى الطّاعة التي يجب عليه أن يقدّمها لله تعالى . فأذا كان الأقوى هو الذي يبادر بعرض حبّه على الأضعف : فإن دور الأضعف وهو الإنسان أن يبادر بالإستجابة لهذة الدعوة الكريمة وهي أن يحب الله شكراً له على نعمه . " وهذا الّذي يمثل جانب الطّاعة والخضوع لله ، فليس من العبادة في شيء أن يرفض الإنسان الإستسلام لله ، ويستكبر عن اتباع منهجه والإنقياد لشرعه " (7) ، وكما قال الله تعالى بأنه يحب المؤمنين من عباده فهو يطلب منهم أن يحبّوه ، ويقول تعالى : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ " (8) ، وقوله تعالى : " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ " (9) . نلاحظ في الآيتين السابقتين أنهما تطالبان المؤمنين بحب الله ولكن أي نوع من الحب ؟ إنه الحب القائم على الإيمان بالله وطاعته ، وتتحقّق طاعته باتباع أوامره وتجنب نواهيه ، لأن الله لايأمر إلاّ بالخير ، ومايحقّق الخير للإنسان .
أفرد الصوفيّة مساحات واسعة من كتاباتهم لموضوع الحب الإلهي باعتباره من أجلّ أنواع السلوك التي يتوجب على المؤمن إتباعها إذا أراد أن يحوزعلى حب الله ، وبدأت تظهر في عباداتهم وصلواتهم أشكال مختلفة من السلوك الإيماني الذي كان برأيهم يميزهم عن غيرهم من المسلمين .
قال أبو طالب المكي : " أن المحبّة أكمل مقامات العارفين ... وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين " ويقول " فالمحبة تكون هبة من الله تعالى لأصفيائه من الأولياء ، وهي أكمل أنواع المقامات التي يحققها المؤمن " و " كل مؤمن بالله فهو محب لله ، ولكن محبته على قدر إيمانه ، وكشف مشاهدته ، وتجلي المحبوب له على وصف أوصافه " (10) . ويقول القشيري أن الحب هو تفضيل الله لجماعة معينة من الناس هم عباد الله المخلصين بقوله : " الحب حالة شريفة ، شهد الحق سبحانه بها للعبد ، وأخبر عن محبته للعبد " (11) ، ويرى القشيري : " أن الله تعالى إذا أراد أن ينعم على عبده بصورة عامة فإن هذه النعم تدخل في باب الرحمة الإلهية أمّا إذا تعلقت بخصوصها فإنّها تسمّى رحمة " (12) .
يعلم الإنسان أنّ الله يراه وهو يعمل ، ويسجّل عليه أعماله ، فمن عمل صالحاً بتقرّبه لله حظي بحبّه ، ويجب على الإنسان أن يرد هذا الحب بالإخلاص لله تعالى عن طريق الحب أيضاً . لأن الحب هو شكل من أشكال التعبير عن الشكر ، والله هو أحق مايجب على الإنسان أن يشكره على نعمه الكثيرة التي منحها للإنسان ، وأهمّها نعمة الإيمان ، ويدخل الإنسان في " حال المحبة " التي يصفها الطوسي بأنها هي حال " لعبد نظر بعينه إلى ماأنعم الله به عليه ، ونظر بقلبه إلى قرب الله تعالى منه وعنايته به ، وحفظه وكلاءته له ، فنظر بإيمانه وحقيقة يقينه إلى ماسبق له من الله تعالى من العناية والهداية وقديم حب الله له ، فأحب الله عزّ وجلّ " (13) .
يقول الطوسي أن أهل المحبة في ثلاثة أحوال : الحال الأوّل هو محبّة العامة ، وهذا ناتج من إحسان الله إليهم وعطفه عليهم . والحال الثاني وهو يتوّلد من نظر القلب إلى غناء الله وجلاله وعظمته وعلمه وقدرته ، وهذا النوع من الحب يصل إليه الصّادقون والمتحقّقون . أما النوع الثالث من الحب فهو محبّة الصديقين والعارفين ، تولدت من نظرهم ومعرفتهم بقديم حب الله تعالى بلا علة ، فكذلك أحبّوه بلا علة (14) . إن الحال الثالث من تصنيف المحبين عند القشيري ينطبق تماماً على الصوفيّة ، لأن الصوفي إذا أحب الله ، فإنه لايحبه لغرض بنفسه ، فهو قد هجر الدنيا بما فيها ، وتحوّل إلى حال الزهد ، ولم يبق له في هذه الدنيا مايحبها ، فكان حبّ الله هو البديل الأسمى له ، ومن كان سعيه لله فقد أمن على نفسه في الدنيا والآخرة .
الهوامش
1 . القرآن الكريم ، سورة المائدة ، آية رقم 54 .
2 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 146 .
3. القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 134 .
4 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 76 .
5 . القرآن الكريم ، سورة الشّورى ، آية رقم 11
6 . القشيري ، مرجع سابق ، ص 319 .
7 . ابن قيّم الجوزيّة ، محبّة الله ، تحقيق يوسف علي بديوي ، اليمامة للطباعة والنشر ، دمشق وبيروت ، ط3 ،
8 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 31 .
9 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 36 .
10 . أبو طالب المكّي ، قوت القلوب ، ج1 ، مكتبة مصفى البابي الحلبي ، القاهرة ، 1961 ، ص 50 .
11 . القشيري ، مرجع سابق ، ص 318 .
12 . القشيري ، مرجع سابق ، ص 319 .
13 . الطّوسي ، مرجع سابق ، ص 54 .
14 . المرجع السابق ، ص 54 .