الباب الثالث والعشرون : في الجمال
اعلم أن جمال الله تعالى عبارة عن أوصافه العليا وأسمائه الحسنى، هذا على العموم. وأما على الخصوص، فصفة الرحمة وصفة العلم وصفة اللطف والنعم، وصفة الجود والرزَّاقية والخلاَّقية وصفة النفع وأمثال ذلك فكلها صفات جمال ، وثم صفات مشتركة لها وجه إلى الجمال ووجه إلى الجلال كاسمه الربّ، فإنه باعتبار المرتبة والإنشاء اسم جمال فيه باعتبار الربوبية والقدرة اسم جلال ومثله اسمه الله، واسم الرحمن بخلاف اسمه الرحيم فإنه اسم جمال، وقس على ذلك.
واعلم أن جمال الحق سبحانه وتعالى وإن كان متنوعاً فهو نوعان: النوع الأول معنوي: وهو معاني الأسماء الحسنى والأوصاف العلا، وهذا النوع مختص بشهود الحق إياه. والنوع الثاني صوري: وهو هذا العالم المطلق المعبر عنه بالمخلوقات وعلى نقائصه وأنواعه.
فهو حسن مطلق إلهي ظهر في مجالي الإلهية سميت تلك المجالي بالخلق، وهذه التسمية اتصالها من جملة الحسن الإلهي ليضم إبراز جنس الحسن على وجه حسنه بحفظ مرتبته من الوجود.
واعلم أن القبيح في الأشياء إنما هو للاعتبار لا لنفس ذلك الشيء، فلا يوجد في العالم قبح إلا باعتبار، فارتفع حكم القبح المطلق من الوجود فلم يبق إلاّ الحسن المطلق.
ألا ترى إلى قبح المعاصي إنما ظهرت باعتبار النهي، وقبح الرائحة المنتنة إنما ثبت باعتبار من لا يلائم طبعه، وأما هي فعند الجعل ومن يلائم طبعه من المحاسن.
ألا ترى إلى الإحراق بالنار إنما كان قبيحاً باعتبار من يهلك فيها ويتلف، وإنما هي عند السمندل من غاية المحاسن.
والسمندل طير لا تكون حياته إلاَّ في تلك النار، فما في العالم قبيح، فكل ما خلق الله تعالى مليح بالأصالة لأنه صورة حسنه وجماله، وما حدث القبح في الأشياء إلاَّ باعتبارات.
ألا ترى إلى الكلمة الحسنة في بعض الأحوال تكون قبيحة بالاعتبارات وهي في نفسها حسنة، فعلم بهذه المقدمات أن الوجود بكماله يدخل فيه المحسوس والمعقول والموهوم والخيال والأول والآخر والظاهر والباطن والقول والفعل والصور والمعنى، فإن جميع ذلك صور جماله وتجليات كماله.
وفي هذا المعنى قلت في قصيدة:
تجلّيت في الأشياء حين خلقتها ...... فها هي ميطت عنك فيها البراقع
قطعت الورى من ذات حسنك قطعة ...... ولم تك موصولاً ولا فصل قاطع
ولكنها أحكام رتبتك اقتضت ...... ألوهية للضد فيها التجامع
فأنت الورى حقاً وأنت إمامنا ....... وأنك ما يعلو وما هو واضع
وما الخلق في التمثال إلاَّ كثلجة ..... وأنت بها الماء الذي هو نابع
وما الثلج في تحقيقنا غير مائه ...... وغيران في حكم دعته الشرائع
ولكن بذوب الثلج يرفع حكمه ..... ويوضع حكم الماء والأمر واقع
تجمعت الأضداد في واحد البها ..... وفيه تلاشت وهو عنهن ساطع
وكلّ بهاء في ملاحة صورة ....... على فوق قد شابه الغصن يانع
وكل اسوداد في مصافين عزة ..... وكل احمرار في العوارض ناصع
وكل كحيل الطرف يقتل صبه ...... بماض كسيف الهند حالاً مضارع
وكل اسمرار في القوائم كالقنا ..... عليه من الشعر الرسيل شرائع
وكل مليح بالملاحة قد زها ....... وكل جميل بالمحاسن بارع
وكل لطيف جلّ أو دقّ حسنه ...... وكل جليل فهو باللطف صادع
محاسن من أنشاه ذلك كله ....... فوحِّد ولا تشرك به فهو واسع
وإياك أن تنطق بعارية البها ...... إلينا البها والقبح بالذات راجع
وكل قبيح إن نسبت لحسنه....... أتتك معاني الحسن فيه تسارع
يكمل نقصان القبيح جماله ...... فما ثم نقصان ولا ثم باشع
ويرفع مقدار الوضيع جلاله ...... إذا لاح فيه فهو للوضع رافع
وأطلق عنان الحقّ في كل ما ترى ...... فتلك تجلّيات من هو صانع
واعلم أن الجمال المعنوي الذي هو عبارة عن أسمائه وصفاته إنما اختص الحق بشهود كمالها على ما هي عليه تلك الأسماء والصفات. وأما مطلق الشهود لها فغير مختص بالحق، لأنه لا بد لكل من أهل المعتقدات في ربه اعتقاداً ما أنّه على ما استحقه من أسمائه الحسنى وصفاته العلا أو غير ذلك.
ولا بد لكل شهود صورة معتقدة، وتلك الصورة هي أيضاً صورة جمال الله تعالى. فصار ظهور الجمال فيها ظهوراً ضرورياً لا معنوياً، فاستحال أن يوجد شهود الجمال المعنوي بكماله لغير من هو له. تعالى الله وتقدّس عما يقولون علوّاً كبيراً.