ولما قرر أمر
الوحدة ونفى وجود الغيرية استشعر سائلاً يقول له : وهذه المكوَّنات الظاهرة فما
تقول فيها مع ثبوت الوحدة ؟ فأجاب بأنها قائمة به، ولولا ظهور نوره فيها ما ظهرت،
كما بين ذلك بقوله :
(لَوْلا ظُهورُهُ في المُكَوَّناتِ ما وَقَعَ عَلَيْها وُجودُ إبصارٍ. وَلَوْ ظَهَرَتْ صِفاتُهُ اضْمَحَلَّتْ مُكَوَّناتُهُ)
كان الله
ولاشيء معه ، فكانت الخمرة الأزلية القديمة لطيفة خفية نورانية روحانية وليس هناك
شكل ولا رسم ، متصفة بصفات المعاني والمعنوية، متسمية بأسمائها القديمة ، منعوتة
بنعوت الجلال والجمال ، فاقتضت الخمرة ظهور حسنها وجمالها واقتضت
الصفات ظهور آثارها والاسماء ظهور مطالبها ، فقبضت الصفات من النور اللطيف قبضة
نورانية لمقتضى اسمه الظاهر واسمه القادر فطلبها أيضا اسمه الباطن واسمه الحكيم ،
فأبطنها في حال ظهورها وغطاها في حال بروزها ، فكانت ظاهرة باطنة ثم تفرعت تلك
القبضة على تفاريع كثيرة بعدد الصفات وتنوعت على أجناس كثيرة بتنوع الاسماء ،
فالماء واحد والزهر ألوان وفي ذلك يقول صاحب العينية :
وكلُّ الورى
طرًّا مظاهر طلعتي مَراءٍ بها من حُسنِ وجهي لامعُ
ظهرتُ بأوصاف
البريَّة كلِّها أجَل في ذواتِ الكلِّ نوريَ
ساطعُ
فبحر الجبروت
فيّاض الى عالم الملكوت. ثم احتجب بالحكمة فصار ظاهره ظلمة وباطنه نوراً، ظاهره
حكمة وباطنه قدرة، ظاهره ملك وباطنه ملكوت ، والجميع جبروت ، فاذا تقرر هذا علمت
أن الأكوان لاوجود لها من ذاتها، فلولا ظهر الحق بها ماظهرت ولاوقع عليها ابصار
الخلق ، كما قال القائل:
مَن لاوجودَ
لذاتِه من ذاتِه فوجودُهُ لولاهُ عينُ محالٍ
وقال آخر :
فلم يبقَ الا
الحقُّ لم يبقَ كائنٌ فما ثَمَّ موصولٌ وماثمَّ بائنُ
بِذا جاء
برهانُ العيانِ فما أرَى بعيني شيئاً غيرَهُ إذْ أُعاينُ
وظهوره تعالى
بواسطة تجليات الأكوان فيه لطف كبير، إذ لايمكن شهوده ومعرفته الا بواسطة هذه
التجليات، ولو ظهر بالاوصاف التي كان عليها في الازل بلا واسطة لتلاشت الكائنات
واضمحلت. وفي الحديث: "حجابه النور لو كشف عنه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء
أدركه بصره". وهذا معنى قوله : لو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته، أي لو ظهرت
نعوته الأصلية الأزلية لاضمحلت المكونات الحديثة ، إذ الكائنات كلها تكثيف للأسرار
اللطيفة التي هي نعوت الخمرة الأزلية التي أشار إليها ابن الفارض في خمريته بقوله:
صفاءٌ ولا ماءٌ
ولطفٌ ولا هوى ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولاجسمُ
تقدَّمَ كلَّ
الكائنات حديثُها قديمٌ ولا شكلٌ
هناكَ ولا رسمُ
فلو ظهرت
الأسرار اللطيفة لتلاشت الكائنات الكثيفة إذ لاظهور للكثيف إذا رجع لطيفا ، وما
مثال الكون الا كثلجة ظاهرها جامد وباطنها مائع فاذا ذوبت الثلجة رجعت إلى أصلها
ماء ولم يبق للثلجة أثر ، فكذلك المكونات الحسية إذا ظهرت أسرارها اللطيفة التي
قامت بها ذابت ذواتها الكثيفة وتلاشت ورجعت إلى أصلها وإلى هذا المعنى أشار صاحب
العينية بقوله:
وماالكونُ في
التمثالِ إلا كثلجةٍ وأنتَ لها الماءُ الذي هو نابعُ
فما الثلجُ في
تحقيقنا غيرُ مائه و غَيْران، في حكم دعته الشرائعُ
ولكن بذوبِ
الماءِ يرفعُ حكمُهُ ويوضَعُ حكمُ الماء والأمرُ واقعُ
فمن وقف مع
ظاهر الثلجة أنكر الماء الذي قي باطنها وكان جاهلا بحقيقتها، ومن نفذ إلى باطنها
عرف أصلها وفرعها. وكذلك الأكوان ظاهرها غرة لمن وقف مع كثافتها وباطنها عبرة لمن
نفذ إلى أصلها ، وقد مثلوا أيضا الكون بصورة جبريل حين كان يتصور بصورة دحية فمن
رآه كثيفا قال : دحية ،وأنكر أن يكون ملكا. ومن عرف أصله لم ينكره ولم يقف مع
ظاهره، فاذا تلطّف ورجع الى أصله ذهبت تلك الصورة واضمحلت، فكذلك يكون الكون إنما
هو خيال فما دام موجوداً في الحس رُأي وظهر فإذا رجع الى أصله بظهور أسراره التي
قام بها اضمحل ولم يبق له أثر. وقد أشار الى هذا صاحب العينية أيضا بقوله :
تجّليتُ في
التحقيقِ بكلِّ صورةٍ ففي كلِّ شيءٍ من جمالي لوامعُ
فَما الكَونُ
في التِمثالِ إِلّا كَدِحيَةٍ تَصَورُ روحي فيهِ شَكلٌ
مُخادِعُ.
ويسمون هذه
الأسرار التي قامت بها الأكوان : معاني، ويسمون الأكوان : أواني حاملة للمعاني،
فلو ظهرت المعاني لاضمحلت الأواني، ومن وقف مع حس الأواني حجب عن اسرار المعاني.
وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه :
لاتنظر الى
الأواني وخض بحر المعاني
لعلك تراني
وقال ابن
الفارض رضي الله عنه :
ولُطفُ
الأَواني في الحقيقة تَابعٌ لِلُطْفِ المَعَانِي
والمَعَانِي بِها تَسْمُو
فالأواني كلها
لطيفة في الحقيقة تابعة للطف المعاني لانها منها، وإنما تكثفت في حق أهل الحجاب
الذين وقفوا مع ظواهر الأشياء واشتغلوا بخدمة الحس قلباً وقالباً فعظم عليهم الحس
وقويت دائرة حسهم وغلظ الحجاب في حقهم فعبادتهم حسية وفكرتهم حسية وذلك لصحبتهم
أهل الحس ولو صحبوا أهل المعاني لاشتغلوا بخدمة المعاني حتى تتلطف لهم الأواني .
قال شيخ شيوخنا
سيدي علي الجمل رضي الله عنه : سألت الشيخ، يعني سيدي العربي ابن عبد الله : فقلت
ياسيدي : كنت أظن أنه لايشفى غليل الإنسان إلا الحس، يعني العبادة الحسية،
ولاظننتُ قط أن فعل المعاني يشفي الغليل أبداً، والآن وجدت نفسي بالعكس لايشفي
غليلها الَّا المعاني، فأجابني بأن قال : ياولدي لمّا كانت همّتك مشورة للحسيات
أمدك الله فيها فصرت لاتقنع الّا بالحسيات، والآن انعكس الأمر لمّا رافقتَ أهل
المعاني أثَّرتْ معرفتهم فيك بتشوير همتك لبلاد المعاني، ولمّا انقلبتْ همّتكَ عن
بلاد الحس وشورت لبلاد المعاني أمدّك الله فيها فصرت تقطع بالمعاني كما تقطع
بالحسيات .فكل من صحب أهل المعاني وانقلبت همته لبلاد المعاني حتى صارت عبادته
باطنية معنوية تلطفت في حقه الأواني ولم ير إلّا المعاني.
قلت : ومما
مَنَّ الله عليَّ بصحبة أهل المعاني إني إذا نظرت إلى الكون بعين بصيرتي من عرشه
إلى فرشه ذاب وتلاشى ولم يبق له أثر والله ذو الفضل العظيم.
تنبيه
: سئل سيدي أحمد بن يوسف الملياني عن ذات الحق تعالى هل معنوية أو حسية فقال هي
حسية لا تدرك قال سيدي عبد الله الهبطي وهذا مما يدل على تحقيق معرفته.
قلت :
ذات الحق تعالى موجودة لطيفة لا تدركها الأبصار ولا تكيفها العقول متصفة بصفات
المعاني والمعنوية، ولو كانت صفة أو معنى كما يزعمه النصارى لم تتصف بصفات المعاني
ولا المعنوية لأن الصفة والمعنى لا يقوم بنفسه ولا بد أن يقوم بغيره والصفة لا
تتصف بصفة أخرى. وأما قول بعض المتأخرين : المعنى لا يقبض إلَّا بالحس، وقولهم
أيضاً لا تنظر إلى الأواني وخض بحر المعاني. وقولهم : الأكوان أواني حالمة
للمعاني، فاعلم انه قد تقدم أنهم يطلقون على أسرار الذات وهي الخمرة الأزلية،
معاني لخفائها ولطافتها، فأشبهت المعاني من هذا الوجه. فتحصل أن الحس لا قيام له
إلَّا بالمعنى وهي معاني أسرار الذات فصار قيام الأشياء كلها بالله ولا وجود لها
معه. وهو الذي أشار إليه بن الفارض بقوله :
وقامتْ بها
الأشياءُ ثم لحكمه بها احتجبتْ عن كلِّ مَنْ لا لهُ فهمُ
أي قامت
الأشياء كلها بالذات العلية، أي بأسرارها اللطيفة الأزلية. وقولهم أيضاً : الذات
عين الصفات والصفات عين الذات، فاعلم أنه لما كان لا ظهور للذات إلا من أنوار
الصفات ولا قيام للصفات إلا بالذات والصفات لا تفارق الموصوف صار كان هذا عين هذا
فنطقوا بتلك العبارة تحويشاً للجمع وفراراً من الفرق وهو اصطلاح منهم سمُّوا ما
تكثف وظهر للحس صفات، وما بطن من سر الربوبية ذاتاً ومعنى، والصفات لا تفارق
الموصوف كما تقول في الثلجة ظاهرها ثلج وباطنها ماء، فالثلج صفات والماء ذات،
الثلج حس والماء معنى، للطافته وخفائه صار كأن معنى.
قال بن
عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}[الجاثية:الآية13] قال : (في كل شئ
اسم من أسمائه واسم كل شيء من اسمه، فإنما أنت بين أسمائه وصفاته وأفعاله باطناً
بقدرته ظارهاً بحكمته، ظهر بصفاته وبطن بذاته، حجب الذات بالصفات وحجبت الصفات
بالأفعال، وكشف العلم بالإرادة وأظهر الإرادة بالحركات، وأخفى الصنع في الصنعة
وأظهر الصنعة بالذوات، فهو باطن في غيبه وظاهر بحكمته وقدرته ليس كمثله شيء وهو
السميع البصير) نقله شارح بداية السلوك هكذا عن ابن عباس رضي الله عنه.
فقوله : حجب الذات بالصفات، أي حجب أسرار الذات بأنوار الصفات وهي أثرها.
وقوله
: وحجب الصفات بالأفعال لأن الأفعال ظروف للصفات لأنها أثر من آثارها ومظهرة لها.
وقوله
: وكشف العلم بالإرادة، أي أظهر ما سبق في علمه بإرادته المخصصة لوقت إظهاره.
وقوله
: وأظهر الإرادة بالحركات، أي أظهر ما سبق من إرادته بظهور الحركات الدالة على ما
أراد.
وقوله
: وأخفى الصنع في الصنعة، أي أخفى الصانع في صنعته.
وقوله
: وأظهر الصنعة بالذوات، أي أظهر قدرته في الإجرام وسائر الذات والله تعالى أعلم.
وقوله
شيخ شيوخنا سيدي علي [الجمل] رضي الله عنه في كتابه [نصيحة المريد في طريق أهل
السلوك والتجريد] في تفسير الذات والصفات : أن كل ما هو جلال فهو ذات وكل ما هو
جمال فهو صفات، فإنما ذلك على وجه التشبيه فإن تجلِّى الصفات كله جمال، لأنه محل
نزهة أرواح العارفين وبه يرتقى أهل الدليل إلى معرفة رب العالمين وهو الذي شبهه
الشيخ ابن مشيش بالرياض في قوله : فرياض الملكوت الخ، وأيضاً هو الذي تمكن رؤيته
وتحصل المعرفة به بخلاف تجلي الذات فإنه جلال محض، إذ لو ظهر ذرة من نوره الأصلي
بلا واسطة لاحترق الكون من أصله. وفي الحديث : "حجابه النار" وفي رواية
: "النور لو كشف عنها لاأحرقت سبحات وجهه كل شئ أدركه بصره"فصار تجلي
الصفات كله جمال وتجلِّي الذات كله جلال فأطلق وجه التشبيه أن كل ما يشق على النفس
فهو ذات لأنه جلال كتجلّي الذات، وكل ما يخف على النفس فهو صفات لأنه جمال كتجلي
الصفات والله تعالى أعلم.
وإنَّما
أطلت الكلام في هذه المسئلة لأني لم أر من تكلم عليها ولا من شفي فيها الغليل وكنت
كثير البحث عنها فلم أجد من يشفيني فيها، وهذا ما ظهر لي فيها وما أنتجته فكرتي،
والله تعالى أعلم وبالله التوفيق.