آخر الأخبار

جاري التحميل ...

خمرة الحان ورنة الألحان شرح رسالة الشيخ أرسلان/النابلسي 7


فإن قلت كيف يصح هذا مع أن العبادات معرفة الله تعالى وشهوده، وفي ذلك لذة لا تُعادلها لذة وهي المسماة بحلاوة الإيمان والتوحيد. فكيف تكون مذمومة قلتُ : هي لذَّةُ روح لا لذةُ نفسٍ ولذائذُ الروح كلها محمودة لأنها مقصودة للروح من حيث ظهور الحق تعالى بها، لا من حيث هي. ولذائذ النفس كلها مذمومةٌ، لأنها مقصودة للنفسِ من حيث هي لا من حيث الحق تعالى الظاهر بها، وإلى ذلك يشير الشيخ شرف الدين بن الفارض قدس الله سره بقوله : 

هَبي، قبلَ يُفني الحُبُّ مِنّي بقِيّة ً       أراكَ بها لي نظرَة َ المتَلَفّتِ.
ومِنّي على سَمعي بلَنْ إن منَعتِ أن     أراكِ فمنْ قبلي لغيريَ لذَّتِ

يعني لذّة لن تراني لموسى عليه السلام من حيث ظهور الحق تعالى له بها، ثم أعقب ذلك بذكر ما يخفى على السالك من موانع الأحوال، ولذلك صرح فيه بلفظ أسير حيث قال (يا أسير) أي : مأسور (المقامات) جمع مقام كحمامات جمع حمام، واصطبلات جمع اصطبل، مجموع بالألف والتاء وإن كان مذكراً وهو الحالة المستمرة التي يدركها السالك، ويجد بسببها في نفسه نشاطاً إلى تلقي المدد من الجانب الأقدس لم يجده قبل ذلك، ولم يذكر الأحوال لأنها فهمت بالطريق الأولى، وهي غير مستمرة بخلاف المقامات وإنما كان أسيرها لوقوفه عندها، لا عند ربه سبحانه وطلبه لها لا لربه، واشتغاله بها لا بربه، وهذا شأن من يطلبها من حيث هي مقامات لا من حيث هي ظهور الحق سبحانه وتعالى فيها و (المُكاشفات) جمع مكاشفة وهي بلوغ ما وراء حجاب العلم من المشاهدة الإلهية احترازاً عن المُكاشفة الصورية وهي كشف الصور، مثل الإخبار بوقت قدوم غائب، والإخبار بما وراء الجدار بما لم يُشاهَد بالحس، ونحو ذلك وتلك المكاشفة ليست في طريق الله تعالى بل هي قاطعة عنه، ولذلك لم يختص بها مِلَّة دون أخرى. كذا حققه العارف التلمساني عفيف الدين قدس الله سره في شرح "منازل السائرين" للهروي رحمه الله تعالى، وإنما كان أسيرها لأنها من جملة الأغيار، فالوقوف عندها قاطع عن الوصول إلى معرفة نور الأنوار قال تعالى : {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ} [النجم:42] ولا نهاية له تعالى، فلا نهاية للسير إليه، فالعالم سائر من الأزل إلى الأبد متقلب في الأطوار العلمية قبل الأطوار الوجودية، ومن كلام بعضهم : "لو رُفعتَ إلى ذروة الأكوان وترقيتَ إلى حيث لا مكان ثم اغتررت بشيء طرفة عين فلست من أولي الألباب"، ومما يحكى عن أبي الحسن الدينوري رضي الله تعالى عنه أنه وقف ليلة كاملة بعد إحرامه بالصلاة على رؤوس أصابعه فسأله من حضره عن سبب ذلك فقال : "طافت روحي السماوات والأرضين والجنة والنار، وقيل لي : هل أعجبك شيءٌ في مُلكي ؟ فقلتُ : لا، فقال لي : أنتَ حينئذٍ عبدي حقاًّ".وقال ابن الفارض رضي الله عنه:
قال: لي حسن كل شيء تجلى     بي تملى فقلتُ: قصدي وراكا

من قوله تعالى : {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}[البروج:20].

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية