الفصل الثالث في الذكر وكيفيته وآدابه وفضله وفيه فصول :
الفصل الأول : في فضله وشرفه.
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}(1) وقال تعالى :{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}(2) معناه اذكروني بالخوف أذكركم بالأمان اذكروني بالرجاء أذكركم بتحقيق الآمال. وقال تعالى : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(3) وقال تعالى : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(4) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً، فُضُلًا يَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فيه ذِكْرٌ قَعَدُوا معهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بأَجْنِحَتِهِمْ، حتَّى يَمْلَؤُوا ما بيْنَهُمْ وبيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إلى السَّمَاءِ، قالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهو أَعْلَمُ بهِمْ: مِن أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فيَقولونَ: جِئْنَا مِن عِندِ عِبَادٍ لكَ في الأرْضِ، يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُهَلِّلُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ، قالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قالوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قالَ: وَهلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قالوا: لَا، أَيْ رَبِّ قالَ: فَكيفَ لو رَأَوْا جَنَّتِي؟ قالوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قالوا: مِن نَارِكَ يا رَبِّ، قالَ: وَهلْ رَأَوْا نَارِي؟ قالوا: لَا، قالَ: فَكيفَ لو رَأَوْا نَارِي؟ قالوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قالَ: فيَقولُ: قدْ غَفَرْتُ لهمْ فأعْطَيْتُهُمْ ما سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ ممَّا اسْتَجَارُوا، قالَ: فيَقولونَ: رَبِّ فيهم فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إنَّما مَرَّ فَجَلَسَ معهُمْ، قالَ: فيَقولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ هُمُ القَوْمُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ)(5). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (يا أيُّها النَّاس ارتَعُوا في رِياضِ الجنَّة، قيل : وما رياض الجنة يا رسول الله ؟ قال : مجالسُ الذِّكرِ فاغدُوا أو روحوا في ذكرِ اللهِ وذكِّروه أنفسَكم من كان يحبُّ أن يعلمَ منزلتَه عند اللهِ فلينظرْ كيف منزلةُ اللهِ عنده فإنَّ اللهَ يُنزِلُ العبدَ منه حيث أنزله من نفسِه)(6). ويروى أن في الجنة ملائكة يغرسون الأشجار للذاكرين فإذا فَتَرَ الذكر وقف المَلَك ويقول قِفْ فَتَرَ صاحبي. وفي الحديث يقول الله تعالى : (أنا معَ عَبدِي مَا ذَكَرَني وتَحرَّكتْ بِي شَفَتاه)(7) (أيُّما عبدٍ اطَّلَعتُ على قلبهِ فرأيتُ الغالب عليه التمسُّكُ بذكري تولَّيتُ سيَاسَتَهُ وكنتُ جليسه وأنيسُه)(8). ويروى أن بيوت الذكر لها نور تراه الملائكة بقدر ما فيها من الذكر كما نرى نحن النجوم في السماء. وقال ابن عبد الرحمن رحمه الله تعالى إن الله يقول : "عَبدِي ما أنصَفتَني أذكرُكَ فَتنسَانِي وأَدعُوكَ إليَّ فتذهبُ إلى غيري وأُذهِبُ عنكَ البلاء وأنتَ مُنعكفٌ على الخطايا، يا بن آدم ما تقول غداً إذا جِئتني". وقال ذو النون رحمه الله تعالى : "من ذكر الله على الحقيقة نَسيَ في جنب ذكرهِ كل شيء، وحفظ اللهُ عليه كل شيء وكان له عوضًا عن كل شيء". ويُقال الإشارة في قوله تعالى : {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} أي أحبوا الله، ففي الحديث : (من أحبَّ شَيْئًا أَكثَرَ مِنْ ذِكرِهِ). فالمحب لا ينسى محبوبه في بُعدٍ ولا في قربٍ ولا وصلٍ ولا هجرٍ. قال ابن عباس رضي الله عنهما : "جعل الله لجميع العبادات وقتاً محدودًا، ولم يرضَ من الذكر إلّا بالكثير من غير تحديد".
قال تعالى : {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا*وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا}(9)التسبيح الصلاة والذكر، والبكرة ربع النهار الأول، والأصيل ربع النهار الآخر {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}(10) صلاة الله رحمته وصلته وبرّه وثناه على عباده بما ألهَمَهُم من ذكره، وصلاة الملائكة استغفارهم ودعاءهم للمؤمنين (لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (11) ، في الدنيا من ظلمات الكفر والجهل والغفلة والخدلان إلى نور الإيمان والعلم والذكر والإحسان، وفي الآخرة يُخرجكم من ظلمات الموقف وشدائده إلى نور الرضوان ونعيم الجِنان {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}(12) ينظرون إلى الله عز وجل ويسمعون السلام عليهم فيكمل لهم النعيم. وقال تعالى : {سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}(13) وقال تعالى : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (14) قال ابن عباس وأبو الدرداء ومجاهد وعكرمة نفع الله بهم معناه : "أن ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له".
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، ويا عزيز لا تحيط بجلاله الأوهام، يا من لا غنًى لشيء عنه، ولا بد لكل شيء منه، يا من رزق كل حيٍّ عليه، ومصير كل شيء إليه، يا من يُعطي من لا يسأله، ويجود على من لا يؤمله، ها نحن عبيدك الخاضعون لهيبتك، المتذللون لعزتك وعظمتك، الراجون جزيل رحمتك، أمرتنا فانتهينا ونهيتنا فاتمرنا، ولا يسعنا إلّا فضلك وجودك، يا جواد، يا جواد، جُد عليَّ وعاملني ومُن بفرط الحب إلى أنتما، ما دام لله ذاكر ومسلما.
***
(1) سورة الأحزاب - الآية 41
(2)سورة البقرة - الآية 152
(3) سورة الأنفال - الآية 45
(4) سورة الرعد - الآية 28
(5) الراوي : أبو هريرة | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
(6) الراوي : جابر بن عبدالله | المحدث : المنذري | المصدر : الترغيب والترهيب
(7) الراوي : أبو هريرة | المحدث : ابن حبان | المصدر : صحيح ابن حبان
(8) ذكره البخاري معلقا كتاب التفسير باب 43
(9) سورة الأحزاب - الآية 41-42
(10) سورة الأحزاب - الآية 43
(11) سورة الحديد - الآية 9
(12) سورة الأحزاب - الآية 43
(13) سورة يس - الآية 58
(14) سورة العنكبوت - الآية 45